أضعت سلسلة ذهبية فى أول يوم من عيد الفطر حين كنت فى أعوامى الأولى. باتت القصة أن تمارا فقدت عقدها يوم وفاة عبدالحليم حافظ. لا أعرف مدى دقة التاريخ لكن عدت إلى منزل جدى وجدتى بعد أن أقنعنى شخص فى الشارع أن عقدى على وشك أن يقع وأنه سيحكم إغلاقه حول رقبتى، لاحظت جدتى على الفور أن الذهب اختفى. يومها سمعت عمتى تقول إن عبدالحليم توفى.
بعدها بشهور، تركت لعبتى فى صالة الانتظار فى عيادة الطبيب. جلست مع أمى أنتظر أن أرى طبيبا كان يعطينى حلوى بعد انتهائه من الكشف. ربما كنت مصابة بمرض يصيب الأطفال كالحصبة أو السعال الديكى ولم يعطنى يومها الحلوى. خرجت من العيادة أجر خيبة أعوامى الستة أو السبعة وتركت لعبتى هناك على الكرسى.
فى التاسعة من عمرى فقدت أخى وصديقى فى اللعب وفى حافلة المدرسة. أحتفظ ببعض تفاصيل الحادث الذى أخذه منى ونسيت كثيرا منها. أول يوم عدت فيه إلى مدرستنا دون أن يدخل معى من أكثر الصباحات وضوحا فى عقلى اليوم، بعد عقود من المدارس والجامعات والتنقل والصباحات الجديدة. كانت عودتى إلى المدرسة وحيدة من أقسى لحظاتى وأكثرها وحدة.
نسيت كتبا فى الحافلات وتساءلت عن باقى القصة وعن الأحداث التى طالت أبطالها. تركت نظارة فى غرفة قياس للملابس وصارت تلك فى عقلى أجمل نظارة فى حياتى بعد أن ضاعت. الأقلام: أظنها من أكثر الأشياء التى أضعتها. تركت خاتما أحببته كثيرا فى حمام طائرة كانت تقلنى من بلد أعمل فيه لتعيدنى إلى دمشق.
دمشق: أكثر ما فقدته هو حياتى فيها وزياراتى إلى مكان كنت أجد نفسى فيه حين أضعت أشيائى فى بلاد أخرى. لن تتوقف الحياة فى أقدم المدن المأهولة بالسكان لكنها أخذت مسارات لا أعرفها. أحاول كما كثيرون من أصدقائى من أهل المدينة أن أعتاد على قصص تصلنى منها وتبدو غريبة. أحاول أن أحدد علاقتى مع مدينة ما زلت أحفظ كل أسرارها وأحتفظ بخباياها لكنى لم أعد أزورها. أغمض عينى أحيانا وأسير فى شارع بيتى وصولا إلى الطريق أسفله بمحاذاة النهر. أذكر نفسى أن سنوات من الجفاف وسوء إدارة الموارد جففت النهر تماما علنى أخفف من رومانسية تسميته «نهرا». أسلم على أبو رامى بقال الحى وأمر أمام ساحة صغيرة وحيوية فيها مطاعم كنت أعرف أصحابها وفيها محل لبيع شرائط «الكاسيت» له علامة تميزه عن غيره. مراهقة على أنغام محل الكاسيت وعلى رائحة أكلات خفيفة من محل أمامه.
أتخيل موظف قسم المفقودات في مطار أو محطة للقطار أو في أي مبنى حكومي. يصله يوميا عشرات الأشياء التي قد يستغرب أصلا أنها مقتنيات. لو أنني خلف المكتب، سوف أتخيل طفلة فقدت قطعة ذهب ولعبة وأخ ومدينة، سوف أتخيل شخصيات من كتاب تركته على كرسي في القطار. ها هي شخصيات الكتاب تتحرر وتخرج من الصفحات، تجلس في القطار مع الركاب يتحدثون عن حياة كانت في القرن السابع عشر في بلد أوروبي. يستغرب ركاب القطار كما يستغرب موظف المطار من شخصيات تاريخية تصل إلى مكتبه أيضا بعد أن نست الطفلة كتابها فتحررت الشخصيات.
أظن أن باستطاعتي أن أحكي قصة حياة متوازية إن أعدت جمع كل ما فقدته منذ كنت طفلة. أتخيل أنني لم أفقد العقد الذهبي وأن أخي اليوم شابا له عائلة وأطفال. لم أفقد مدينتي ولم ترحل جدتي، لم يتم هدم بيتها الدمشقي التقليدي ولم تخرج مكانه عمارة شديدة القبح. تخيلوا كل هؤلاء معا في قسم مفقودات أستطيع أن أعود إليه وأصحبهم معي إلى حياتي؟
باستطاعتي أيضا أن أحكي قصة مبنية على كل ما وجدته وتركه الآخرون: قطعة نقدية تلمع في الشمس اعتبرتها بشرى أن كثيرا من النقود ستأتي نحوي لاحقا في الحياة. حلوى مغلفة بورق فضي أوحت لي بالاحتفال. نغمات موسيقية وصلتني من شباك مررت أمامه في مدينة أوروبية فرافقتني موسيقى الجاز كل حياتي بعده. بيت شعر من قصيدة لمحمود درويش قرأتها على جدار في مدينة عربية فاعتمدتها تعويذة تحميني وترشدني.
سوف أحتفظ بما وجدته وأدع ما فقدته حيث هو. تعلمت من الفقدان، واجهت الفراغ والرحيل والخوف والحزن وخيبة الأمل، وفرحت بما أخذته وما وضعه أحدهم في طريقي. أغلق باب الخزانة على قصص قطفتها من على طرقات كثيرة مشيتها. أدندن نغمة وصلتني منذ سنوات كثيرة وغناها مطربون عدة بنسخ أحببتها كلها. لن يعود أخي واختفى بيت جدتي وأضعت نظارتي المفضلة. بالمقابل يطل علي ثلاثة وجوه أراهم كنور الشمس كل صباح. هناك حيوات متوازية يعيشها الناس مع أشياء أناس آخرين فتختلط التفاصيل دون أن ندري!