نشر موقع 180 مقالا للكاتب سميح صعب، يؤكد فيه أن الانتقاد العلنى الذى وجهه الرئيس الأمريكى، جو بايدن للحكومة الإسرائيلية لا يمكن ترجمته إلى تخلى أمريكا عن دعمها للعمليات الإسرائيلية البربرية فى غزة، إذ لم تجرؤ أمريكا حتى الآن على التصويت لصالح مشروع وقف إطلاق نار إنسانى فى غزة أو التوقف عن دعم إسرائيل ماليا وعسكريا. كما يرى الكاتب أن سبب تجاهل نتنياهو لكلام بايدن وإصراره على موقفه هو إدراكه بأن استطلاعات الرأى للانتخابات الأمريكية 2024 تشير إلى تفوق ترامب على بايدن... نعرض من المقال ما يلى:
لوهلة، أوحى الانتقاد العلنى الذى وجّهه الرئيس الأمريكى جو بايدن، يوم الثلاثاء قبل الماضى، إلى إسرائيل، للمرة الأولى منذ بدء حربها على غزة قبل سبعين يوما، بأن الخلافات التى قيل إنها تدور سرا بين الجانبين، حول الطريقة التى تُدار بها الحرب، قد خرجت إلى العلن، وبأن واشنطن ضاقت ذرعا برئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وأن الحرب تقترب من نهايتها!
سرعان ما تبين أن ثمة استعجالا فى الاستنتاج، وبأن انتقادات بايدن، التى تكفل مستشاره للأمن القومى جيك سوليفان بإيضاحها فى رحلته إلى إسرائيل، لا ترقى إلى طلب أمريكى صريح بوقف الحرب، وإنما ترمى إلى تغيير الأداء الإسرائيلى، من «القصف العشوائى» (بحسب تعبير بايدن نفسه) إلى عمليات «أكثر استهدافا»، حسب سوليفان.
أجلى مستشار الأمن القومى الأمريكى الكثير من الغموض الذى أحاط فى الآونة الأخيرة بالموقف الأمريكى، من مثل أن البيت الأبيض قد حدّد أسابيع وليس أشهرا، من أجل إنهاء الحرب، بحسب ما اشتُم من تصريحات وزير الخارجية الأمريكى أنطونى بلينكن خلال زيارته إسرائيل قبل أسبوعين.
سوليفان قال بوضوح إنه لا خلاف على مسألة المدة التى قد تستغرقها الحرب، وإنما ما تريده أمريكا هو جعل «العمليات العسكرية المكثفة، أقل كثافة، وأن تتركز على أهداف عالية الدقة كملاحقة قادة «حماس» والتركيز على المعلومات الاستخبارية». وغاية الاقتراح الأمريكى هو تقليل الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، وتاليا الحد من النزوح فى اتجاه رفح والحدود المصرية.
أما بقية كلام بايدن عن أن الحكومة الإسرائيلية هى الأكثر تطرفا فى تاريخ إسرائيل، وبأن مثل هذه الحكومة لا يمكن أن تقبل حل الدولتين، الذى يتمسك به البيت الأبيض كرؤية سياسية وحيدة لضمان أمن إسرائيل وتحقيق الاستقرار فى الشرق الأوسط، فإن نتنياهو لم يتأخر فى الرد عليه. يقول نتنياهو للإسرائيليين المتعطشين للانتقام اليوم من غزة، إنه هو الوحيد الذى يضمن عدم قيام دولة فلسطينية بأية صيغة من الصيغ، وبأن عملية أوسلو (1993) كانت «خطأ فادحا» لن يقدم على تكراره، وبأن غزة لن تحكمها بعد اليوم لا «حماس» ولا «فتح» (السلطة الفلسطينية)، وبأنه لا انسحاب للجيش الإسرائيلى من غزة، وبأن الحرب لن تتوقف قبل «القضاء التام» على «حماس».
نتنياهو الذى يُصوّر غزة اليوم بأنها بابل «العهد القديم» بالنسبة للشعب اليهودى، ويستعين بأمثال توراتية لتعبئة الإسرائيليين، يخوض معركته الأخيرة وعليها يتوقف مصيره كشخص، حتى لو قاده ذلك إلى التصادم مع بايدن، ومن المؤكد أنه يقرأ جيدا استطلاعات الرأى التى تُعطى تفوقا واضحا للرئيس السابق دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى ستجرى بعد أقل من عام. ونتنياهو واثق من أن ترامب لن يخذله أبدا، لا بل سيزايد عليه لإرضاء قاعدته الإنجيلية والمولودين ثانية فى الولايات المتحدة.
• • •
المواجهة بين نتنياهو وبايدن يتمناها رئيس الوزراء الإسرائيلى ويعتبر أنها تصب لمصلحته وتُطيل عمر حياته السياسية، وتُصوّره الوحيد القادر على القول «لا» لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
وبذلك تصبح «لاءات» الولايات المتحدة منذ بدء الحرب، وهى لا للعودة إلى احتلال دائم لقطاع غزة، ولا لتصغير القطاع كإنشاء منطقة عازلة فيه، ولا للحصار والإغلاق.. كلها مجرد «لاءات» فارغة وفق حسابات نتنياهو.
وحتى عندما أطلق بايدن انتقاداته، أقدم على تجاوز الكونجرس (وطبعا الكونجرس لن يعارض) وأرسل على عجل إلى إسرائيل 15 ألف قنبلة ذكية و14 ألف قذيفة للدبابات، ليقطع دابر كل تأويل بإمكان اللجوء إلى استخدام المساعدات العسكرية كرافعة للضغط على إسرائيل، كى توقف الحرب أو على الأقل لتخفض التصعيد، أو تعمل على تحييد المدنيين.
فى عام 1982، عندما كانت إسرائيل تقصف بيروت الغربية عشوائيا وتقتلع أبنية من أساساتها بالقنابل الفراغية، كانت الذريعة هى وجود قادة منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا الراحل ياسر عرفات فيها. وكان حى الفاكهانى يماثل خان يونس الآن، من حيث الاعتقاد بوجود القيادات الفلسطينية فيه، فنال القسط الأكبر من الدمار، كما يجرى الآن فى خان يونس. وفى لحظة بلغ فيها جنون القصف حدا غير معقول، اتصل الرئيس الأمريكى الراحل رونالد ريجان هاتفيا برئيس الوزراء الإسرائيلى وقتذاك مناحيم بيجن ليطلب منه «وقف الهولوكوست» فى بيروت تحت طائلة تعرض العلاقات بين واشنطن وتل أبيب للضرر، فأجابه بيجن بجفاء: «أنا الذى أعرف معنى الهولوكوست»، فى إشارة إلى مقتل أقاربه على أيدى النازيين الألمان فى بولونيا إبّان الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك امتثل بيجن لطلب ريجان وأوقف القصف. هذا ما رواه مراسل صحيفة «الجارديان» البريطانية فى القدس جايسون بوركى، ليضيف أن بيجن حقّق هدفه بإخراج مقاتلى منظمة التحرير من بيروت، لكن أعقب ذلك بروز «حزب الله»، على مسافة أشهر قليلة.
وإسرائيل تقع فى الخطأ نفسه اليوم فى غزة. لكن لا يوجد فى البيت الأبيض من هو مستعد ليطلب من نتنياهو وقف الحرب مرة واحدة وليس بالتقسيط، تحت طائلة إلحاق الضرر بالعلاقات بين أمريكا وإسرائيل.
هل ينتظر بايدن فعلا من رئيس الوزراء الإسرائيلى أن يأخذ العبرة من الخطأ الذى وقعت فيه الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001 فى أفغانستان؟ أو من التنبه إلى أن «القصف العشوائى» يُفقد إسرائيل «شرعية» التأييد العالمى للحرب؟ وأين التأييد العالمى عندما وقفت الولايات المتحدة وحدها (وبريطانيا امتنعت عن التصويت) فى مجلس الأمن ضد مشروع قرار بوقف إطلاق نار إنسانى فى غزة فى 8 ديسمبر الحالى. ولم تكن المرة الأولى التى تصوت فيها أمريكا ضد وقف النار أو هدنات إنسانية ممتدة منذ بدء الحرب فى 7 أكتوبر.
• • •
كل ما يُقال عن خلافات أمريكية ــ إسرائيلية تتمحور حول اليوم التالى لحرب غزة، لن تجد ترجمة فعلية على الأرض ما لم تكن ثمة إرادة لدى البيت الأبيض فعلا للجم تمادى إسرائيل فى استخدام تفوقها النارى لقتل المزيد من الفلسطينيين فى غزة. أما الطلب من إسرائيل تحديد أهدافها بدقة عالية، وتزويدها بالقنابل الذكية كى تفعل ذلك، فهو كمن يذر الرماد فى العيون، ولن يردع نتنياهو. ربما لو صوّتت أمريكا إلى جانب قرار وقف النار فى مجلس الأمن، لكانت إسرائيل بدأت تتلمس بداية تغير فى الموقف الأمريكى.
يسير بايدن على خيط مشدود عندما ينتقد إسرائيل. ويُقال إن من دفعه إلى إطلاق تصريحه الأسبوع الماضى، هو نائبته كامالا هاريس التى تعتبر أن قتل المدنيين فى غزة قد تجاوز الحدود. ومنذ أيام يُنفّذ موظفون فى فريق بايدن وقفات احتجاجية فى البيت الأبيض ضد استمرار الحرب، كما تحرّكت جماعات يهودية أمريكية مناهضة للحرب ونظّمت تظاهرات فى مدن أمريكية عدة، بينما الجناح اليسارى فى الحزب الديموقراطى، يرى أن سياسة بايدن فى الشرق الأوسط ستكون سببا رئيسيا فى خسارته الانتخابات.. أما الدول العربية فهى الأقل تأثيرا على واشنطن.
يقود نتنياهو الشرق الأوسط إلى مرحلة ما قبل أوسلو، أى مرحلة ما قبل الاعتراف الإسرائيلى بوجود شعب فلسطينى، وتاليا العودة بالصراع إلى بداياته.. ولو افترضنا أن حرب غزة ستستمر بالوتيرة التى يريدها بايدن نفسه، هل سيُجنب ذلك المنطقة مخاطر انفجار صراع أوسع فى أى لحظة، من باب المندب إلى جنوب لبنان؟
النص الأصلي
https://bit.ly/3Tvoe7Q