ملل ... سأم ... ضجر هي مشاعر تصيبنا جميعاً في فترات متفرقة من حياتنا العملية ولها تأثير سيئ على قدراتنا على العمل والإنجاز، مقالنا اليوم عن هذا الشعور وما هي أسبابه وجدير بالذكر هنا أن نقول إنه لا وظيفة أو شخصية بمأمن من هذا الشعور فحتى العلماء ومدراء الشركات الكبيرة وحتى أصغر موظف بل والطلاب تصاب به، لكن يجب أن نفرق بينه وبين نوعين آخرين من المشاعر المثبطة للهمة، الشعور الأول هو الملل من عدم وجود عمل ("من الفضا" كما نقول في اللغة العامية!) أو من وجود عمل متكرر لا جديد فيه، النوع الثاني هو الشعور باليأس من عدم وجود فرصة للترقي والتقدم في عملك (شعور "مفيش فايدة"). ما نتكلم عنه اليوم هم أشخاص يحبون عملهم ويبدعون فيه (مثل العلماء في معاملهم أو الأساتذة في قاعات المحاضرات) ولكن مع ذلك تأتي عليهم لحظات يشعرون فيها بعدم الرغبة في العمل... هذا الشعور يطلقون عليه بالإنجليزية كلمة "burnout" وهو ما يعطي إيحاء بأن ثمة حريق ما وهو دليل على إنتهاء الطاقة وعدم وجود دافع ... هذا ما سنتكلم عنه اليوم.
إذا بحثت في الإنترنت على كلمة "burnout" فستجد الكثير من المقالات والأبحاث تتكلم عنه، إذا فهو مشكلة حقيقية وموجودة وليس مجرد تهويل أو مبالغة، وفي مقال في مجلة "Physics Today” يطالب المؤلف " Luigi Delle Site" الجامعات ومراكز الأبحاث بعدم الضغط أكثر وتوقيع أية جزاءات على من يصاب بهذا النوع من الملل ويحذر أن هذا "الحريق" من العوامل التي تؤثر على المجتمع العلمي، فما هي أسباب هذا الشعور؟
إذا نظرنا إلى عمل أغلب الأساتذة في الجامعات البحثية في أمريكا مثلاً نجد أن هذا الأستاذ يكون تحت ضغط كبير ومستمر للنشر وللتدريس والبحث عن تمويل لأبحاثه وهذا الضغط المستمر الذي قد يستمر لسنوات يحتاج طاقة كبيرة للتغلب عليه والاستمرار في العمل فإذا تعدت هذه الطاقة قدرته على الإحتمال سيشعر بهذا الشعور الذي نتكلم عنه اليوم، تخيل نفسك بعد الإنتهاء من كتابة بحث علمي كبير هل تشعر برغبة في البدء في ثان على التو؟ غالباً الإجابة بالنفي حتى ولو لم تكن مرهقاً جسدياً ولكن المجهود العقلي أكثر إجهاداً ... فكيف نتغلب على ذلك؟
حيث أن هذا الحريق الداخلي يأتي من شدة الضغط الذي يفوق إحتمال الشخص فيجب أن لا نسمح أن يصل الأمر لذلك الحد، في مقال بجريدة الإدارة الأشهر في العالم "Harvard Business Review" بتاريخ نوفمبر2016 تقول المؤلفة "’Monique Valcour" أن هناك عدة خطوات يمكن أن تتخذها للدفاع عن نفسك ضد هذا الشعور، إحدى هذه الخطوات هو تقليل بعض العوامل المؤدية للضغط مثلاً إذا كنت تعمل في مركز أبحاث هل يمكن أن تنيب أحد الزملاء لعمل إحدى مهامك لمدة ثم ترد هذه المساعدة في وقت لاحق (خاصة لو كنتما تعملان في نفس المشروع البحثي)؟ في بعض الأوقات يكون الضغط نتيجة وجود ميعاد محدد لتسليم البحث ولا مجال لتأجيل هذا الميعاد، هنا تقليل العمل الملقى على عاتقك قد لا يكون ممكناً ولكنك قد تستطيع الحصول على طاقة أكبر للعمل عندما تفكر في أهمية هذا البحث لك وللمجتمع العلمي عندما ينجح وهذه إحدى استراتيجيات ما يطلقون عليه الذكاء العاطفي أو "Emotional Intelligence" ويدرسونه ويكتبون عنه في كثير من أقسام الإدارة، وسيلة أخرى من المقال المذكور أعلاه من مجلة جامعة هارفارد للإدارة هو تغيير التركيز من مشروع لآخر فإذا كنت تعمل في مشروع بحثي وشعرت بالضجر فتوقف عن العمل في هذا المشروع لفترة وإنقل تركيزك لمشروع بحثي آخر، هذه الاستراتيجية تستلزم شيئين: أن يكون عندك مشروعان بحثيان وأن تنظم وقتك بحيث لا تضطر التوقف عن العمل في مشروع في وقت حرج لهذا المشروع، طبعاً لا تعمل في مشروعات بحثية كثيرة في نفس الوقت فذلك يقلل التركيز بل وقد يزيد الضغوط عليك فتأتي هذه الاستراتيجية بنتائج عكسية.
طريقة أخرى هي أن يكون لك هواية خارج العمل لذلك كنا نرى علماء عظماء مثل أينشتاين وفاينمان يلعبان آلة موسيقية (أينشاتاين الكمان وفاينمان الطبلة)، جدير بالذكر في هذا السياق أيضاً أن الراحة مهمة فالعمل سبعة أيام في الأسبوع قد تجعلك تنتج أكثر في البداية قبل أن تنزلق في هذا الشعور الذي نتكلم عنه اليوم ولذلك قيل أن تشرشل كان يحرص في أحايين كثيرة أن يحصل على عطلة نهاية الأسبوع حتى أثناء الحرب العالمية الثانية!
في النهاية نريد أن ننبه أن عملك ليس هو وسيلة تأثيرك الوحيدة في هذا العالم فلا تقع فريسة الضغط في العمل وتهمل الوسائل الأخرى مثل الأعمال الخيرية أو تأثيرك في دائرة الأصدقاء حولك ... نحن موجودون في هذا العالم لنحدث تأثيراً ما عن طريق التأثير في الأصدقاء أو العمل أو الإنخراط في أعمال خيرية أو ثقافية أو هواية فإذا زاد الضغط في أحدها فإنتقل أنت للآخر (ولكن حافظ على مصدر دخلك!).