بدأت منذ أيام إمتحانات الصف الأول الثانوي، هذا ليس خبراً بذاته فهو يحدث كل سنة ولكن الجديد هنا أن الإمتحان بطريقة الكتاب المفتوح (open book) وهي تجربة جديدة عندنا في مصر على الأقل في المدارس الحكومية التي يرتادها السواد الأعظم من الطلبة، لقد تكلمنا سابقاً عن الكتاب المفتوح بطريقة عامة عندما طُرحت الفكرة والآن بعد أن بدأ تطبيق الفكرة نرى أنه من المفيد أن نلقي نظرة أخرى عليها.
لنبدأ أولاً بسؤال بسيط عن الهدف من الإمتحان، الإمتحان هو وسيلة ليتأكد منها المدرس أن الطالب استوعب المادة العلمية ودرجة الإمتحان هي مدى استيعاب الطالب فمن نجح فقد استوعب المادة ومن حصل على درجة عالية فقد استوعبها جيداً، هذا هو التعريف العام ولكنه للأسف أصبح قديماً يعلوه التراب ويجب تجديده وإزالة الغبار من عليه ليتماشى مع القرن الواحد والعشرين...ما هو التجديد هنا؟
نحن في عصر إنتفت فيه الحاجة للحفظ فإن أردت أن تعرف معلومة ما فأمامك المعارف البشرية كلها تقريباً بضغطة زر على شبكة الإنترنت، فأول تعديل في تعريف الإمتحان هو في معنى كلمة "الاستيعاب" لأنها كانت تعني الحفظ والآن أصبحت تعني الفهم، الحقيقة أن هذا التعريف كان موجوداً منذ أكثر من نصف قرن ولكن أغلب مدارسنا لم تكن تعمل به، إنظر ماذا قال زكي مبارك في الكتاب القيم "الفكر التربوي عند زكي مبارك" الذي يجمع آراءه حول التربية والتعليم من مختلف مقالاته وكتبه وهو من جمع وترتيب وتحليل زهيرمحمد جميل كتبي وكريمة زكي مبارك، إنظر ماذا يقول:"يجب أن نغير الطريقة المتبعة في مدارسنا وهي طريقة التحفيظ، ونتبع الطريقة المثلى في التربية وهي طريقة التفهيم، وطريقة التفهيم هي أن يفهم التلميذ فهماً صحيحاً ما يعرض في الدرس من مختلف الأفكار والآراء. عند ذلك يهتاج شوقه إلى مناقشة ما يسمع وتثور فيه رغبة التفوق، فيناقش ويجادل، ويضمر في نفسه فكرة التغلب على الباحثين من رجال العلوم والأداب والفنون." لقد قال زكي مبارك ذلك سنة 1945!
التعديل الثاني في معنى الإمتحان هو عبارة "المادة العلمية"، نحن في عصر تتغير فيه العلوم وتتبدل بسرعة فائقة فمثلاً في تخصصي (هندسة وعلوم الحاسبات) كنا نقول لطلاب الصف الأول في الجامعة أنه عندما يأتي الوقت الذي يتخرجون فيه سيكون ما تعلموه في أول سنتين قديماً، إذا المادة العلمية فقط لا تكفي ولكن التفكير النقدي مهم حتى يتمكن الطالب من إكتساب العلم بنفسه لأنه لن يظل في المدرسة أو الجامعة للأبد، وإذا كنا نحتاج ذلك في الجامعة فيجب تحضير الطالب له بداية من سنوات المدرسة.
الإمتحان في القرن الواحد والعشرين إذا لا يجب أن يقيس الحفظ بل الفهم والتفكير النقدي في المادة العلمية المقدمة والقدرة على الاستنباط وهذا يحتاج إلى الكتاب المفتوح.
الإمتحان بطريقة الكتاب المفتوح يترك الطالب يدخل الإمتحان بالكتاب المدرسي ولا تأتي الأسئلة مباشرة من الكتاب وإلا كان الإمتحان تافهاً ولا يقيس شيئاً بل يجب أن تأتي أسئلة تستلزم استخدام معلومات الكتاب المدرسي لاستنباط معلومات جديدة يستخدمها الطالب للإجابة على السؤال، لهذا فالطلبة التي تعودت على إمتحانات تأتي متشابهة كل عام وتعتمد على الحفظ أو التدريب على نوعية واحدة لا يخرج عنها الإمتحان ترى أن الإمتحان المعتمد على الكتاب المفتوح يأتي من خارج المنهج.
طبعاً لهؤلاء الطلبة عذرهم لأنهم واجهوا هذه النوعية الجديدة من الإمتحان بعد سنين عديدة من النوعية القديمة ويحتاجوا التدريب على التفكير النقدي والقدرة على الاستنباط وهذا سيأتي على مراحل لهذا فالإمتحان لهذا الرعيل الأول لن يدخل في المجموع... هذا بخصوص الطالب.
المدرس يجب أن يتدرب هو نفسه على كيفية تدريب الطلاب على نوعية التحصيل والتفكير الجديدة ثم يدرب طلابه، هذا وحده لا يكفي بل يجب تدريب المدرس على كيفية تصحيح هذه النوعية من الإمتحانات التي تحتي على أسئلة ذات إجابات متعددة كلها صحيحة أو تتفاوت في الصحة فليس هنا إجابة واحدة نموذجية.
البعد الاجتماعي مهم وهذا يقع على عاتق الأهل، أحب أن أقول لأهالي الطلاب لا تجزعوا إن جاءت الإمتحانات صعبة من وجهة نظركم فأبناؤكم يتعلمون طريقة جديدة في التفكير والحل وهذا صعب في البداية، إخرجوا من سجن أن المجموع هو أهم شيء لأنه يضمن مستوى إجتماعي وعمل محترم .... هذه النقطة الأخيرة أعقد مما تبدوا لأنها تستلزم تغييراً مجتمعياً لا يأتي بين ليلة وضحاها خاصة لأنه أيضاً يحارب فساد الدروس الخصوصية والتي لن يتنازل المستفيدون منها عن مكاسبهم بسهولة.
الطريق طويل ولكن لنتفائل ولنترك الزمن يقول كلمته