لم يفاجئنى خبر رحيل ابن صديقتى بقدر ما أحزننى. الطفل الجميل استسلم جسده الصغير للمرض رغم محاولات عائلته التمسك به منذ أن كان عمره عاما واحدا. هاتفت العائلة فى المساء وأنا أعى أن لا كلمات ممكنة للعزاء ولا شىء أقوله سيطفئ ولو حتى قليلاً نار الفقدان والغضب والشعور بالذنب الذى سيلف أمه الشابة ربما طوال العمر.
لا شىء يحضرنا لفقدان طفلنا، لا شىء يمكن أن نلجأ إليه ليخفف من وقع رحيل من أتينا به إلى هذا العالم كى نراه يكبر، يضحك، يزهر، ثم يربت علينا حين نكبر نحن، فيصبح هو الأب والأم ونصبح نحن الأولاد.
أفكر فى صديقتى وأنا أحمل رضيعتى من سريرها، أضمها إلىّ وأدس أنفى فى ذلك المكان الطرى أعلى رقبتها عند منبت الشعر. أشم رائحة الشقاوة واللعب، وأسمع تنفسها المتواصل. تفتح عينيها وتنظر إلى باستغراب، قبل أن تنام من جديد. تتكور بين ذراعى فأغير من وقفتى حتى أحتويها بشكل أكثر انسيابية.
***
دخلت عالم الأمومة فى عمر يعتبر متأخرا بعض الشىء بالنسبة لبنات جيلى وبلدى. دخلته وأنا غير مقتنعة تماما بدورى كأم، غير واثقة من قدرتى على التخلى عن بعض من ذاتى فى سبيل طفل يقال أنه حين يولد يأخذ كل ما بداخل المرأة. أعترف بأننى وإن أحببت طفلى الأول منذ يومه الأول، إلا أننى لم أشعر بذلك الطوفان الذى قيل لى إنه سوف يجتاحنى من رأسى حتى أخمص قدمى. حتى أننى كثيرا ما تساءلت إن كنت أهلاً للأمومة فعلا، فأنا أحب الولدين دون أى تشكيك وأقوم بواجباتى تجاههما، لكننى لم أشعر، فى سنواتهما الأولى، أنهما قد غطيا على كل شىء آخر فى حياتى.
ثم جاءت الطفلة، فى وقت تعصف فيه الأزمات الإنسانية بالمنطقة، وعيون أطفال اللاجئين تنظر إلينا من كل المساحات الإعلامية فيسكن أصحابها فى عقولنا ويطاردوننا حين ننام. جاءت طفلتى فى الوقت الذى وصل فيه الولدان إلى عمر هو أكبر من عمر الطفل لكنه أصغر من عمر المراهق. أولاد صغار صالحونى مع أطفال الأرض جميعا، وأشعرونى بأن هناك شيئا فى داخلى قد اكتمل مع نضوج الأم التى أصبحتها أخيرا.
لكنهم فى الوقت ذاته وضعونى فى خانة عجيبة أصبحت فيها أمى، وأصبح أطفالى أنا، فأنا أرى نفسى فى ابنتى وحين أمر أمام المرآة يتهيأ لى أحيانا أنها تعكس صورة أمى كما تظهر فى الصور الباهتة الألوان، وهى تحملنى أو تداعبنى. فى الأمومة بعض من شعور نرجسى، نبحث من خلاله عن حبنا لأنفسنا رغم إيماننا أن حبنا للأولاد أسمى من كل حب آخر. فى الأمومة رغبة بأن نرى لأنفسنا استمرارية، وكأن أطفالنا امتداد لنا.
لذا فأنا لا يمكن أن أتخيل معنى أن يرحل ابنى قبلى، أن أعيش وهو ميت، أن تستمر الحياة التى كنت قد بنيت فى عقلى معالمها مع ولادة الطفل. سنتان كرضيع، ثم الحضانة فالمدرسة ثم عمر الشباب، فخطط مستقبلية هى على الأغلب بعيدة جدا عما سيختاره الولد، لكن فى التخطيط محاولة لترتيب الحياة والاطمئنان على جزء منا انسلخ عنا مع الولادة، لكنه بقى فينا.
***
أذكر أننى قلت يوما لصديقة إنها قطعا لا تشعر بالوحدة وقد أنجبت أربعة أولاد، فابتسمت وهى تعدد البلاد الأربعة، التى استقر فيها أولادها. تساءلت عن جدوى سنوات القلق والتربية والأمل بشيخوخة تزينها العائلة من حولى إن كنت فى آخر المطاف سأجلس بانتظار العائلة أوقات العطلات فقط. تذكرت والدى وتخيلتهما فى البيت الهادئ بعد عطلة نكون قد قضيناها معهما، وتساءلت هل يستمر صوت الهاتف والباب ورنات الضحكات والنقاش بمرافقتهما بعد أن نرحل؟ هل يتركان أشياءنا فى مكانها تنتظرنا حتى زيارتنا التالية؟ أم أن الحياة تستمر رتيبة منظمة وتكون زيارة الأبناء بمثابة قوسين تنحشر بينهما القصص والثرثرة قبل أن يعود الإيقاع فى البيت إلى رتابته اليومية؟
حين سمعت عن رحيل الطفل الصغير لم أستطع أن أضع نفسى مكان أمه، لم أستطع أن أتخيل أنها تدخل إلى الغرفة حيث كان ينام، فترفع لعبة يكون قد رماها فى الأرض أو تطوى ثيابه، التى كانت تجف على الحبل قبل أن يموت. ماذا تفعل حين تسمع باص المدرسة كل صباح، وهو يتوقف ليقل أولاد الجيران، ولا يقل ابنها لأنه غير موجود؟
***
أضم ابنى فى نومه فيلتصق بى، أبقى مستيقظة أنقل نظرى بين الثلاثة لأسجل تفاصيل طفولتهم. أتمنى أن يتوقف الزمن بنا فنبقى هنا، على السرير فى منتصف ليلة ربيعية تدخل نسماتها إلينا من الشباك المفتوح فيلتصق بى الولد الثانى بحثا عن الدفء. أريد أن أسجل هذه اللحظة فأسترجعها يوما فى المستقبل حين أكون وحيدة، فأتذكر تماما رائحة الشقاوة عند منبت شعر البنت، والطريقة التى يلتف الولد بها باللحاف، أريد أن أسترجع لحظتى هذه بكل تفاصيلها فى يوم بارد أكون فيه وحدى فلا أشعر بالوحدة لأنهم معى، كما هم اليوم، صغارا وملتصقين بى، يتنفسون بانتظام ويتقلبون فى السرير الكبير. أولادنا لنا، حتى لو ذهبوا.
كاتبة سورية