عادة ما يشار إلى «الاسفنج» بوصفه مادة تمتص السوائل، وعندما توصف شخصية أو جماعة بهذا الوصف فإن ذلك يعنى وجود قدرة عالية على امتصاص المواقف، التقلبات، الصدمات.
السائد الآن هو «ثقافة الاسفنج»، بمعنى أن نٌسرع بامتصاص الموقف، وتفريغ شحنة الغضب فى الرأى العام دون أن يترتب على ذلك مراجعة لسياسة قائمة أو تبنى سياسة جديدة. بالتأكيد هى مرحلة أفضل مما كان سائدا فى عصر مبارك تحت شعار «خليهم يتسلوا»، ثقافة صلدة، غير مرنة، تنتظر رءوسا تنطح فى الصخر، مما يدمى الجباة دون نتيجة، فى حين أن «الاسفنج» يمتص الطرقات العنيفة دون أن يسبب ألما.
مضى وزير العدل محفوظ صابر بعد تصريح صادم له، استقال أو أقيل لا يهم، المهم فى المسألة أن تصريح الوزير اعتبر فظا فى حق «الفقراء» و«جامعى القمامة»، وانبرى متحدثون باسمهم يعبرون عن غضبهم، وهو غضب مشروع، وما أن غادر الوزير المشهد السياسى حتى خفت الحديث عن القضية الأهم وهى «العدالة الاجتماعية». هناك سؤال ملح: إذا كان ما ذكره وزير العدل السابق يعبر عن رأيه الشخصى ــ كما تردد ــ رغم أن شواهد كثيرة تنفى ذلك، هل جرت مراجعة للتعيينات فى مؤسسات بعينها حتى نتبين أن الخلفية الاجتماعية لشاغلى الوظائف عريضة، تضم كل الفئات حسب معيار الكفاءة؟ أم أن إقالة أو استقالة وزير العدل شكلت موقفا «اسفنجيا» لامتصاص غضب الرأى العام حتى لا يكون ذلك دافعا لمراجعة العدالة الاجتماعية فى مناح كثيرة فى الحياة.
عفوا ليس فقط جامعى القمامة ممن يواجهون تمييزا فى المجتمع، هناك فئات كثيرة أيضا تعانى من ذلك لاعتبارات متعددة، وينبغى أن نكون جادين فى الحيلولة دون حدوث ما تحدث عنه وزير العدل بوصفه تعبيرا عن قواعد عرفية متبعة دون سند من قانون أو دستور.
الصحف صممت، ومواقع التواصل الاجتماعى كعادتها انشغلت بقضايا أخرى، ونسى الناس الأمر. لست بالطبع أطالب بأن يستمر الناس فى توجيه سهامهم لمسئول غادر المشهد السياسى، لأنى مرة أخرى أرى أن القضية أكبر، والشخصنة فيها غير مفيدة، بل مضللة. هل ما ذكر صحيح ويٌمارس أم لا؟ هذا السؤال ينبغى أن نواجهه بشجاعة قبل أن ننسى.
ليست المشكلة فى تصريح صادم، ولكن فى تمييز صامت.
لا ينبغى التعامل مع قضية العدالة الاجتماعية مثل «منتخب كرة القدم» الذى لا نبحث موضوعيا عن خسائره، ولكن نسرع إلى اعتبار المسألة خطأ مدرب، يجرى الإطاحة به تهدئة لرأى عام كروى غاضب عقب كل هزيمة مروعة.
بالطبع المسئول المخطئ أو المقصر يحاسب بكافة السبل بما فى ذلك اقصائه، ولكن المساءلة الفعالة تتجاوز الشخص إلى المضمون، وتطرح الأسئلة المحورية التى تتعلق بالإمكانات، القرارات، السياسات المتبعة، الاعتبارات الفنية.
المجتمعات تتقدم حين تنظر إلى القضية قبل الشخص، هذه هى ثقافة التطهر المستمر، والشعور بالذنب الاجتماعى الذى ينبغى التخلص منه ايجابيا بعلاج النقص والقصور، وليست الثقافة الاسفنجية التى تمتص السائل حتى يعود مرة أخرى إلى الانسياب إذا انكمشت مرة أخرى.