التكنولوجيا هي ما تؤثر على حياتنا وهي ما نتفاعل معها ونظراً لأهميتها فقد تحدثنا عن التكنولوجيا في عدد من المقالات السابقة: تحدثنا عن علاقتها بالعلم وأن التكنولوجيا تأخذ العلم من المعامل ومن أوراق البحث العلمي إلى حياتنا وتحدثنا عن تأثير التكنولوجيا على سوق العمل وعن العوامل التي تساعد التكنولوجيا على حل مشكلات المجتمع وأخيراً تحدثنا عن ثالوث العلم والتكنولوجيا والمال ... فلم هذا المقال إذاً؟ اليوم نتحدث عن العوامل التي تؤثر على التكنولوجيا وتسرع أو تؤخر أو تمنع إنتشار تكنولوجيا معينة، هناك ملايين الأبحاث العلمية تنشر كل عام في مختلف التخصصات (نعم ملايين!) منها الألاف التي تصلح كتطبيق تكنولوجي لتحسين خدمة ما أو منتج ما فهل تتحول هذه الآلاف إلى تكنولوجيا؟ الإجابة بالقطع لا ... لماذا؟
التكنولوجيا هى استخدام نظرية علمية لإنتاج أو تحسين خدمة أو منتج أى أنك تنفق مالاً وجهداً ثم تتوقع الحصول على عائد حتى تتمكن من الاستمرار في تحسين هذه الخدمة أو المنتج خاصة لو أن هناك منافسين لك في السوق، حتى وإن كان هذا المنتج أو الخدمة يقدم من قبل الدولة فإنها تحتاج عائد حتى تستمر في تقديم الخدمة أو المنتج، إذا فنحن نتكلم على عدة عوامل تتحكم في التكنولوجيا: وجود النظرية العلمية ووجود التمويل ووجود السوق التي تحتاج إلى الخدمة أو المنتج ... فلننظر إلى كل على حدة.
التكنولوجيا تقوم على نظريات علمية أثبت البحث صحتها (أو إحتمالية صحتها عالية) واللافت للنظر هنا أن النظرية لا تحتاج أن تكون كاملة فمثلاَ عندما وضع ألكسندر جراهام بل (وإن كانت هناك دلائل كثيرة ظهرت تثبت أن المخترع الأصلي للتليفون هو الإيطالي أنطونيو ميوكي Antoniou Meucci ولكن هذا ليس موضوعنا في هذا المقال) تصميم الهاتف لم يكن يعرف (أو لم تكن متطورة بما يكفي) استخدام ما يسمي بنسبة الإشارة إلى الشوشرة (Signal to noise ratio)، العلم يتطور ولكن التكنولوجيا لا تستطيع أن تنتظر حتى يكتمل العلم لأنه ببساطة لن يكتمل بل يتطور مدى الحياة فأجهزة الهاتف الأولى كان صوتها سيئاً جداً ثم تحسنت مع التقدم العلمي والتقدم التكنولوجي... ولكن أي من النظريات العلمية الكثيرة الموجودة تستخدمها التكنولوجيا؟ هذا يقودنا إلى النقطة الأخرى وهى التمويل.
التميول هنا هو الخطوة التالية بعد إيجاد الفكرة، أنت تفكر في فكرة لمنتج أو خدمة (أو تحسين لمنتج أو فكرة) ثم تحلل هذه الفكرة لترى هل العلم في صفك (أى هل هناك نظرية علمية تساعدك على تحويل الفكرة إلى منتج أو خدمة) ثم يأتي التمويل للبدء في التفيذ ... إذا الفكرة هي الطريق من العلم إلى التكنولوجيا والتمويل هو الوسيلة للسير في هذا الطريق.
لنأخذ مثال على كيفية تأثير التمويل على التكنولوجيا: من يعملون في مجال الحاسبات وخاصة تصميم الحاسبات يسمعون كثيراً جداً عن قانون موور (Moore’s law) وهو مسمى على إسم جوردون موور أحد مؤسسي شركة إنتل فقد نشر بحثاً سنة 1965 يتنبأ فيه بأن المكونات الإلكترونية داخل الشريحة المكونة للمعالجات (أهم قطعة في الكمبيوتر) سيتضاعف عددها كل عام (تم تعديل التنبوء وأصبح في كل عامين ثم أصبح في كل عام ونصف) فما معنى ذلك؟ إذا كنت ستضاعف عدد المكونات في نفس المساحة فهذا معناه أن حجم المكونات سيصغر وبالتالي سرعتها ستزيد وحجم الطاقة التي ستحتاجها ستقل وبذلك يصبح عندنا أجهزة كمبيوتر أرخص وأسرع وتستهلك طاقة أقل ... وظل هذا القانون سارياً قرابة خمسين عاماً ... ولكن ما علاقة ذلك بالتمويل؟ أهم ما سنلاحظة في هذا القانون أنه ... ليس قانوناً!! القانون مثل قانون الجاذبية مثلاً يحدث دون أى تدخل منا فقط نكتشفه ونحاول استغلاله ولكن قانون موور يحتاج منا إلى عمل لتصغير حجم المكونات الإلكترونية، العلم قال أن ذلك ممكن ولكن على التكنولوجيا أن تعمل لتحقيقه، وعليه أصبح هذا القانون هو الخطة التي تسير عليها كل الشركات التي تعمل في مجال تصنيع الشرائح الإلكترونية والشركة التي لا تسير على خطى هذا القانون (الذي هو ليس بقانون) تخرج من المنافسة وتفلس، التي تسير عليه تبيع منتجات أجود وبالتالي تكون العائدات أكبر والتمويل أسهل، الشركات التي تحاول أن تسبق هذا القانون (أى تحاول تصغير المكونات الإلكترونية في مدة أقل من قانون موور) تفلس أيضاً!! لأنك كي تسبق هذا القانون عليك بإنفاق كم هائل من الأموال في تطوير التكنولوجيا وبالتالي تحتاج أن تبيع كمية أكبر بكثير من الشرائح، والوقت اللازم لتحقيق ربح أكبر بكثير من الوقت الذي سيظهر فيه الجيل الأحدث من الشرائح من شركات أخرى فلن تجد الوقت الكافي لبيع عدد من الشرائح يحقق لك ربحاً! إذا فالتمويل ليس فقط مجرد الحصول على المال ولكن أيضاً كيفية إنفاقه آخذين في الإعتبار المنافسة والنظرية العلمية وحالة السوق والسوق نقصد بها الناس ... وهو العامل الثالث المؤثر على التكنولوجيا.
حيث أننا في عصر تكنولوجيا المعلومات فلنتكلم عن الناس بمثال من تكنولوجيا المعلومات، الناس تشتري برنامج كمبيوتر (أو خدمة على الإنترنت) لتستخدمه في شئ، بعد فترة يعتاد الناس هذا البرنامج ويطلبون برنامج محسن بمميزات أكثر وهذا يحتاج أجهزة كمبيوتر أقوى (إنظر قانون موور أعلاه) ويأتي التمويل وتُبنى أجهزة أقوى ويعمل مصممو البرامج على تصميم البرنامج المحسن ويشتريه الناس فيأتي ذلك بتمويل لمصممي البرامج وبعد فترة يعتاد الناس البرنامج الجديد ... وهكذا.
إذا فسيكولوجية الجماهير مهمة هنا ولا عجب أن علم النفس وعلم النفس الإجتماعي من أهم الوسائل التي تساهم في التقدم التكنولوجي بطريق غير مباشر، الشركات لا تقدم فقط ما يحتاجه الناس بل في أحيان كثيرة تقدم شيئاً جديداً ثم تقنع الناس أنهم يحتاجونه (بعيداً عن التكنولوجيا إنظر مثلاً صناعة الموضة في الملابس وأدوات التجميل)، وفي كتاب جميل جداً لمالكوم جلادويل (Malcolm Gladwell) بعنوان "The Tipping Point" أو "نقطة التحول" يشرح العوامل التي تجعل منتج ينجح وآخر قد يكون أفضل ولا ينجح بنفس القدر ... وهذا موضوع كبير قد نتكلم عنه مستقبلاً
نستطيع أن نقول أن العلم والتكنولوجيا دائرة مغلقة يتحكم في إتساعها عوامل إقتصادية ونفسية وسياسية ...