ثمن المعرفة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 5:39 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثمن المعرفة

نشر فى : الإثنين 20 مايو 2019 - 11:05 م | آخر تحديث : الإثنين 20 مايو 2019 - 11:05 م

إذا كانت المعرفة هى ثروة الأمم الحقيقية فى هذا العصر، وكانت المعلومات هى مادتها التى دونها لا تنشأ المعارف ولا تتراكم، فإن تكلفة الحصول على المعلومات قد باتت مسألة فارقة بين الغنى والفقر، بين التقدّم والتخلّف. حتى وقت قريب كانت سبل تحصيل المعلومات محدودة تخضع لقيود الرقابة المحلية على المصنّف ومحتواه، وتكلفة اقتناء الكتاب أو الصحيفة، وبطء تحصيل المعلومة لجمعها من مصادر سماعية أو ورقية لا تعرف محركات البحث لها سبيلا... لذا فقد كانت دورة المعلومات فى مدارها المعرفى طويلة شاقة، وكان إيقاع التطور بطيئا لا يمكن مقارنته بما يشهده اليوم مختلف صنوف وألوان المعرفة، حتى الدورات الاقتصادية كانت أطول زمنا، إذ لم يكن اكتمال دورة المعلومات بين الأطراف الفاعلة فى الاقتصاد إلا عبر وسائل تداولها وتحليلها التقليدية، وإن لم تصدقنى فقارن بين دورة ما عرف بالكساد الكبير فى مطلع الثلاثينيات من القرن الماضى، وبين أزمة الرهن العقارى عام 2008 والتى وصفت عند انفجار فقاعتها بأنها أشد قسوة من ضربة الكساد الكبير، ومع ذلك اكتملت تداعياتها ثم انحسرت فى زمن قياسى، أقل كثيرا مما عرفه العالم فى الثلاثينيات.

عشت وعاش الكثيرون من أبناء جيلى وأمم من قبلنا على معلومات مغلوطة لا سبيل إلى التحقق من صحتها وتدقيقها إلا بضرب أكباد الإبل (كما يقول العرب). كان عليك أن تذهب إلى عدد من المكتبات، وتنفق فى ذلك وقتا ثمينا، فضلا عن سائر التكاليف المادية لتدقيق معلومة واحدة. أما الرسائل العلمية فأنت تسافر إلى مكتبات هنا وهناك لجمع مادتك العلمية المطلوبة لإعداد رسالة الماجستير أو الدكتوراه، تفنى فى ذلك شهورا وأعواما للحصول على منحة دراسية ــ فقط ــ لجمع المادة المطلوبة، ناهيك عن الغوص فى محتويات تقدّر بملايين الصفحات الورقية من أجل الوصول إلى ضالة الباحث مطمورة فى مبحث صغير بين الأضابير! بالتأكيد مازالت الحاجة ملحة إلى طلب المكتبات، ومازالت الشعوب المتقدمة متمسّكة بالكتاب الورقى تتحرّك به فى وسائل المواصلات على سبيل الاستمتاع، لكن تطور وسائل التكنولوجيا غيّرت كثيرا من هيئة المكتبات الحديثة ومن شكل الكتاب، ومن مصادر تحصيل المعلومات بحيث توفر الكثير من الوقت والجهد للتحليل ولتكوين المعرفة على نحو أكثر تعقيدا.

***
أصبحت المعلومات اليوم عند أطراف أصابعك. يمكن أن تتحقق من أخطاء وضعت على أحاديث شريفة أو آيات قرآنية عبر ضغطة واحدة، يمكن أن تعثر على قصيدة شعر جاهلية لا تذكر منها سوى شطر بيت بضغطة أخرى، يمكن أن تجمع موسوعة كاملة، وتجد كتبا لم تعرف عنها شيئا بضغطات سريعة مماثلة... وفرة المعلومات لا يعنى بالضرورة سهولة التكوين المعرفى، لأننا تعلمنا أن البيانات الكثيرة تكون مصحوبة بضجيج وتشويش، وكذلك المعلومات التى هى بيانات تمت معالجتها لا تخلو من الضجيج والتضارب والتعارض، وكلما كثر تدفقها زادت الحاجة إلى أدوات لتصنيفها وتحليلها ومعالجتها، حتى تشكل إضافة معرفية جديدة، ولا تكون سبيلا إلى الجهلاء وأنصاف المتعلمين كى يلمعوا فى الظلام ويحدثوا ضجيجا بلا طحين.

منذ أيام دار حوار بينى وبين ولدى «مالك» وهو طالب فى الصف الأول الإعدادى يدرس على النظام الانجليزى فى إحدى المدارس الدولية بمصر، بشّرنى خلاله ولدى الصغير بأن الملياردير الكندى «إيلون ماسك» مؤسس شركة «سبيس إكس» والمدير التنفيذى لشركة «تسلا موتورز» سوف يتيح للعالم كله إنترنت رخيصا للغاية عبر الفضاء، وسوف تكون أقل باقة بمبلغ 10 دولارات بسرعة وسعة تحميل تفوق مثيلتها فى شبكاتنا الأرضية آلاف المرات. جاءت تلك البشارة المالكية على خلفية معاناتنا الأسرية اليومية مع عدم انتظام خدمة الانترنت الأرضى بصورة مزعجة. ولأنك عزيزى القارئ يمكن أن تستخرج من هذا الحوار العابر عددا كبيرا من الدلالات، فلن أرهقك فى استخلاص أهمها سريعا، ولن أعرّج على قيمة الشغف المعرفى الفطرى الذى ربما يحملك إليه طلب اللعب مع أصحابك بكفاءة وسرعة أعلى عبر الأثير، لكنه يظل مدخلا وأداة تعين من أتقنها صغيرا على حسن استخدامها لأغراض أهم مع تقدم العمر، وكفى بصبى بحث عبر شبكة الانترنت على خبر مثل هذا حتى يحمله إلى والده مستبشرا، دليلا على أن السنوات المقبلة حبلى بطفرات هائلة فى المعارف البشرية، طوبى لمن تسابق فى تحصيلها وترك توافه الأمور.

***
نعود إلى «إيلون ماسك» والذى لحسن حظى كنت قد قرأت عن مشروعه هذا من قبل وإن كان بتفاصيل أقل، فألزمتنى البشارة مزيدا من البحث ووجدت أن مشروع starlink الذى يعتزم من خلاله الملياردير الكندى أن يطلق 12 ألف قمر صناعى بحلول عام 2027 من المقرر أن يخدم كل سكّان الكوكب وأن يتيح خدمة الإنترنت حتى فى أعمق الكهوف وبكفاءة عالية غير مسبوقة! يتسابق معه فى ذلك رجال أعمال آخرون أمثال «جيف بيزوس» مؤسس ورئيس شركة أمازون و«ريتشارد برانسون» مؤسس مجموعة فيرجن وهم جميعا يريدون إعادة اكتشاف الإنترنت مع تحقيق أرباح كبيرة باستهداف قاعدة مستهلكين تصل إلى أربعة مليارات مستخدم للإنترنت! لا أعرف إن كانت شركات الاتصالات فى مصر قد استعدت لتلك الثورة التكنولوجية الجديدة أم لا! هذا النوع من المخاطر من شأنه أن يغلق شركات وأعمالا تقدّر قيمتها بتريليونات الدولارات حول العالم، وهى تمثّل جانبا مهما من إيرادات قطاع الاتصالات فى مصر.

الاستعداد لا يكون بالبحث عن آليات للحماية والحجب والمنع كما هو معتاد فى بلادنا منذ الأزل! لكنه بكيفية الاستفادة والاندماج وتعزيز القيمة المضافة للطفرات المرتقبة فى مجال إنترنت الأشياء، التى لابد لها أن تنشأ على خلفية إطلاق تلك الأقمار الصناعية، وبفرض نجاح تجاربها الحالية والتى بدأت عام 2018 بإطلاق شركة «سبيس إكس» قمرين اصطناعيين تجريبيين هما Titan A/B

التحديات التى تواجه «ماسك» كبيرة وهى تحديات فنية واقتصادية وسوقية، وهناك من يتشكك فى نجاح مشروعه خاصة مع إعلان أمازون عن مشروع «كويبر» Kuiper والذى من المقرر أن يطلق 3236 قمرا صناعيا فى مدارات منخفضة قريبة من الأرض لتوفير خدمات إنترنت متميزة. الأزمة فى إطلاق الأقمار الصناعية ليست فى الفضاء ولكن فى تكلفة المحطات الأرضية المستقبلة لإشاراتها، وقد حصل «ماسك» بالفعل على موافقات بإنشاء مليون محطة أرضية، لكن استقبال المستخدم النهائى لها عبر هوائيات من المتوقع أن تكون مرتفعة التكاليف، وهو مجال يمكن للشركات المحلية أن تجد فيه سوقا للتكامل مع المشروع الأكبر عوضا عن منافسته التى تعد شبه مستحيلة، خاصة مع تطورها وتعدد وتنوّع المحاولات والتى لابد أن تصل فى النهاية إلى حلول ذكية سريعة عملية ومنخفضة التكاليف.

***
كذلك يواجه أصحاب الثورة الجديدة تحديات تطور شبكات الجيل الخامس فى دول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والتى تعد بوصول سرعة الإنترنت على هاتفك المحمول إلى 10 جيجابايت/ثانية! مما يقلل من إنجاز مشروعات إنترنت الأقمار، ويجعلها ــ رغم تكاليفها المرتفعة «عادية» أو غير ضرورية. أعتقد أن رهان «ماسك» ومنافسيه سيكون على مستخدمى الإنترنت فى الدول الأقل تقدما، والتى مازالت تكلفة الإنترنت فيها مرتفعة للغاية على الرغم من تراجع مستوى خدماتها!

تجربة فشل سابقة لمزود خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية O3B والمقصود بها Other 3 Billions أى الثلاثة مليارات الآخرين، فى إشارة إلى المحرومين من الإنترنت حول العالم والذين كانت الشبكة تستهدفهم عند تدشينها فى عام 2007، هى تجربة وحيدة لم تفشل بالكامل، ولا تكفى للحكم على المشروعات الجديدة بالفشل، ولم تمنع مغامرين ذوى بصمات علمية واقتصادية كبيرة من خوضها بأسلوب جديد وبتكاليف أكبر، بل ولم تمنع مؤسسها نفسه من المواصلة فى السباق الجديد من خلال شركته oneweb.

ثمن المعرفة مرتفع يشكل جمع المعلومات منه ركنا أصيلا، وتشكل أدوات معالجة البيانات والمعلومات ركنا آخر، وتشكل محركات البحث ركنا ثالثا وإن أردنا اللحاق بركب الأمم فعلينا أن نتسابق فى جعل تلك الأركان سهلة متاحة للجميع، حتى تزداد فرص تراكم المعرفة، ومن ثم تراكم ثرواتنا الحقيقية.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات