ثمَّة كلبٌ مُقيَّد داخل شرفةٍ مُرتفعةٍ، ينبح ويشبُّ على قائميه الخلفيين، ينظر من أعلى السور مُتمنيًا نزولَ الشارع، يُعبِّر عن فرحتِه الغامِرة حين يطلُّ عليه ساكنٌ من بِنايةٍ مُقابلة، يهزّ ذيلَه وتلمع عيناه ويُكثّف نباحَه حماسةً وترحابًا؛ فما إن يختفي الرفيقُ المُحتَمَل حتى تعود نبرتُه للانكسار. حَبْسَةُ الكلبِ مُؤلمةٌ ومُرهقةٌ، وأصحابُه لا يعبأون.
• • •
الحَبْسَةُ اسمُ مرَّةٍ من الفعل حَبَسَ، أي مَنَع وقيَّد. مِن الحَبسةِ ما هو ماديُّ مَلموس وما هو مجازيٌّ، وفي مَوادِ القانون أنواعُ مُتباينةُ من الاحتجازِ كما أن في حقلِ التقاضي مُدَدًا وحيثيات. الفاعلُ حابسٌ والمفعول به مَحبوسٌ، وللمَحبوسِ حقوقٌ مَنصوصٌ عليها في المَواثيق الدوليةِ بوصفِه إنسانًا، لا يَمنع تطبيقها حُكْمٌ ولا تعطلها إدانة.
• • •
ثمَّة حَبسٌ احتياطيٌّ وآخر انفراديٌّ، وكلاهما خضَعَ في جوْهرِ تعريفه مُؤخرًا إلى التبديلِ والتعديل. قد تكون الحَبسَةُ مَجهولةَ الأسبابِ، مُبهمةَ المُلابسَاتِ، يعصِفُ مسارُها بأيّ توقُّع ويُقوِّض ضماناتِ السلامةِ والأمان. لا تزال الأجيالُ التي انتصف بها العمر تذكر حَبْسَةٌ تاريخيةٌ جَرَت وقائعها في النِصفِ الثاني من السبعينيات، وثانية جمعت وجوهًا مُتباينةً من كُلِّ حَدب وصَوب في مَطلعِ الثمانينيات، وأظنُّ كلتيهما قد استحقَّت عن جدارة لقب "حَبْسَة المظاليم".
• • •
هناك مَن يحبِس بكوبِ شاي بعد أكلةِ سَمَك، ومَن يحبسُ بصحنِ أرز بالَّلبن بعد أكلةِ كُشري، ومَن يُفضّل أن يَحبسَ عقِب تناول أيّ وجبةٍ بالدخان؛ سيجارة تضبط الاتزانَ وتعطي إحساسًا بالاكتمال، رغم ما لها من أثرٍ كريهٍ على الهَضْم وعلى استرخاءِ الأنفاس. الحَبْسَةُ هنا تعني استبقاءَ المأكولِ في مَوْضِعه، ومَنحه فُرصةَ الاستقرارِ في الأحشاء بلا ضغينة.
• • •
إذا اقتربَ المَوعد وبدأت المُفاوضاتِ الجَديَّة على طريقِ الارتباط، كان المَحبَسُ ووزنُه وقيمتُه أحدَ الشروط. هو خاتمٌ ثمينٌ يزين أصبعَ العروس مُصاحبًا للدُبلة. ثمَّة مَحبَسٌ من الذَّهب أو الألماظِ وآخرٌ من فضّةٍ أو نحاس وثالثٌ مِن صفيح؛ كلٌّ يعكس قدرَ جالبِه، ولا بأس مِن أن يصبح لاحقًا مَجالًا للمُفاخَرَةِ أو مَدعاةً للسُخريةِ والتحقير. ثمَّة مَحابسُ أخرى مُتعددة الأغراضِ منها؛ مَحبَسُ المياه العموميّ والخاص، ومَحبَس الغاز، ومنها أيضًا ما ورد في صياغاتٍ بلاغيةٍ عتيقة، فقد كُنيَ أبو العلاء المعري على سبيل المثالِ بلَقَبِ "رهين المحبسين"؛ الفقر والعماء، فكأنه أقام فيهما عاجزًا عن التحرُّر، وإن طاولت أبياتُه عنانَ السماء.
• • •
هناك مَن يَحبِس نفسَه خوفًا من مُواجهةِ أزمةٍ طرَقَت بابَه، ومَن يحبِسها يأسًا وكآبةً وعزوفًا عن التواصُل مع الناس. تبدو الحبستان إراديتين، يختارهما المرءُ بكاملِ حريته، والحقُّ أن قيدًا داخليًا لا يُرى بالعين المُجرَّدة؛ قد يُوقِع أثرًا أقوى مِن الأصفاد المرئية.
• • •
إذا قيل قد حَبَسَ المرءُ أنفاسَه؛ فإيحاءٌ بخطورةٍ وشيكة وبترقُّب حَدَثٍ جلل، وإذا حَبَسَ واحدٌ دماءَ الآخر؛ فالقصد أنه أحرجه أو أهانه وأقعده في الوقت ذاته عن الردّ، أما إذا تحكَّم الشَّخصُ في انفعالاته وحَبَس غضبَه أو دموعَه؛ فقد مارَسَ من السيطرةِ الذاتيةِ ما يثير الإعجابَ، وإذا حَبَس مالَه؛ فالتعبير يُدلل من قديم على أنه أوقفه لفعلِ الخَير، لكني أظن وقعَ الكلمةِ على الناس اليوم قد اختلف عنه في الماضي.
• • •
في لعبةِ الطاولةِ "عادة" و"محبوسة"، أحببتها في أيام غابرة، ثم مرَّ الوقتُ وخلا مِن فَسحةٍ لمِثل هذا الترويح. نسيت قواعدَها وخطواتِها وما تعنيه الأرقامُ على الزهر، مع هذا؛ لم تزل للرقعةِ جاذبيتها، ولتعليقاتِ المُتبارين على الجانبين طرافةٌ وبَهجة.
• • •
الحَبْسُ والانحباسُ والاحتباسُ كلُّها مصادر تحتاج إلى فاعل؛ مباشرًا كان أو غيرَ مُباشر. قد يحتبس البول في الكُلى أو الحالب بسبب حَصوة، وتنحبس حرارةُ كوكبِ الأرضِ داخل غلافه بسبب سوء إدارة موارده وتزايُد أطماعِ سُكَّانه.
• • •
حابس حابس؛ كلمةٌ تتكرَّر في الثقافة الشعبية وتُقالُ دفعًا للشَّر والاستعاذة مِن العفاريت، والعفاريت ليست بالضرورةِ كائنات مِن عالمٍ آخر لها قرونٌ وذيولٌ ومَخالب. طالما سمعت من جدَّتي عبارةً قصيرة وبليغة: "ما عفريت إلا بني آدم". كانت تقولها في ثقةٍ تدفع مَخاوفَ الطفولة بعيدًا، وتردُّ الخيالات المُضحِكة إلى عالم الواقع.
• • •
في السجون الإسرائيلية وغيرها أسرى طالت بهم الحَبسةُ، وإذا طالت الحَبسةُ اعتاد المَحبوسُ عليها وتطبَّع بشروطِها وصار الفكاكُ منها بعد انقضاءِ المَوقِف صعبًا. يقدم فيلم "سوق المتعة" الذي قام ببطولته الراحل العظيم محمود عبدالعزيز أبلغَ مثال، فقد جعل للنوم ضوابطَ؛ إن لم تتوفَّر خارج عنبرِ السِّجن حلَّ الأرقُ ودام.
• • •
ليست الحَبسةُ وحدها هي التي تتسبَّب في اعتياد مُخيف، بل أنواع شتَّى من القهرِ والإذلالِ ما إن يتوطَّنَ المَرءُ عليها ويألفها حتى ينسى ما دونها، ويتطبَّع بأخلاقِها ويفقد ما للأسوياء الأحرار من خِصال.