صورة على ورقة نقدية - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:20 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صورة على ورقة نقدية

نشر فى : السبت 20 يونيو 2015 - 11:10 ص | آخر تحديث : السبت 20 يونيو 2015 - 11:10 ص

فى استفتاء طريف، اختار عدد من الأمريكيين أن تحل صورة امرأة سمراء ــ كانت ابنة لاثنين من العبيدــ محل صورة الرئيس السابق «أندرو جاكسون» على الورقة النقدية من فئة العشرين دولارا. قيل فى الخبر الذى نشرته الصحف، إن ورقة العشرين دولارا هى الورقة الأكثر تداولا فى الولايات المتحدة، وعليه ستصبح المرأة السمراء هى الأكثر شهرة، خاصة ولم تعرف الأوراق النقدية الأمريكية صورة بهذه المواصفات من قبل: لم تستضف أبدا سوى صور الرجال، ولم تحفل أبدا إلا بالبيض منهم.

المرأة هى «هارييت توبمان»، مناضلة ضد التفرقة العنصرية، ولدت فى عشرينيات القرن التاسع عشر، وتوفيت عام 1913 عن عمر ناهز التسعين عاما. استطاعت «توبمان» تحرير مئات العبيد عبر تهريبهم إلى ولايات الشمال، وانخرطت فى الحرب الأهلية ضد الجنوب الداعم لنظام الرقيق، وقد حررت إخوتها ثم أمها وأبوها وأخذتهما إلى بيت اشترته من مالها الذى استطاعت ادخاره من خلال عمل مضن. كانت تقول للرجال والنساء الذين يظهرون ترددا أو خوفا خلال رحلة الهروب، ويعلنون الرغبة فى عدم إتمامها، إن أمامهم خيارين؛ إما أن تقتلهم فورا أو أن يصمدوا حتى ينالوا حريتهم وكرامتهم فى مكان جديد.

•••

على الجانب الآخر، تولى أندرو جاكسون الرئاسة عام 1829، ليصبح الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية. حين ولدت «هاريت توبمان» كان حاكما لولاية فلوريدا، ورغم إنه لم يمتلك ثروة كبيرة، ورغم إنه خاض معركة ضد سيطرة ونفوذ الأغنياء، إلا إنه ظل متمسكا بتملك العبيد، وقد وقع خلال فترة رئاسته قانونا يسمح بتهجير الهنود الحمر عنوة وبوسائل عنيفة، مما تسبب فى إيقاع أعداد كبيرة من القتلى بينهم.

•••

فضل الأمريكيون المرأة التى اشتهرت بالبحث عن حريتها وعن حرية الآخرين، على الرئيس الذى اشتهر بكونه جنرالا وسياسيا ناجحا. فضوا «هاريت توبمان» على «أندرو جاكسون«: إن كان جبارا فأمزجة الناس قد مالت إلى من خبر الظلم والجور، وإن كان عظيما فبريق المكافحين من أجل الحرية قادر على أن يطفئ بجانبه نجوما كثيرة، وربما كان المضطهدون والساعون إلى العيش الحر الكريم، أقرب إلى القلوب من أصحاب السلطة والنفوذ حين تجئ ساعة الاختيار، بشرط معرفة الحقيقة.

•••

فى موضع آخر، وعلى ورقة نقدية أخرى، نشرت الصحف عن انتصار صورة «ونستون تشرشل» على صورة «إليزابيث فراى»، ليحتل الجنرال المحنك مكان المصلحة الاجتماعية الشهيرة على ورق الخمسة جنيهات إسترلينية. «فراى» بدورها امرأة مناضلة، اهتمت فى شبابها المبكر بالمرضى والمشردين، وقد أولت السجون عناية خاصة ملفتة، فقد أنشأت مدرسة لتعليم الأطفال المسجونين مع أمهاتهم، وكانت القوة الدافعة وراء وضع تشريعات جديدة كفلت معاملة أقل توحشا وأكثر إنسانية لهؤلاء الخاضعين لعقوبات مقيدة للحرية، وأنجزت الكثير لصالح الفقراء.

وضعت بريطانيا صورة «فراى» على الورقة النقدية عام 2001 إلى أن أزيلت عام 2013 لصالح «تشرشل»؛ رئيس الوزراء متعدد المواهب وصاحب جائزة نوبل فى الأدب، لكن هذه الإزالة لم تكن مبنية على استفتاء شعبى، بل محض إجراء معتاد يقوم به البنك المركزى البريطانى، حيث يتم تغيير الصور دوريا، وقد لاقى هذا الإجراء تحديدا اعتراضات كثيرة، وقرر البنك هذا العام إشراك المواطنين البريطانيين لأول مرة فى اختيار صورة إحدى الشخصيات المبدعة، لتوضع على الورقة النقدية فئة العشرين جنيها إسترلينيا.

•••

يختار الناس أبطالهم ورموزهم وفقا لمعطيات كثيرة، ويبدو أن معايير الاختيار معقدة ومتباينة، وأن الثقافة والوعى يشكلان عاملا هاما، بينما الميل الفطرى يشكل عاملا آخر لا يقل أهمية.

أوراقنا النقدية على مدى استخدامها لم تحمل فى غالبيتها صورا لأشخاص بل خليط من أبنية ومواقع أثرية؛ بعضها لجوامع وأخرى لمعابد وآثار مصرية قديمة. هناك مثلا مسجد أحمد بن طولون على الورقة فئة الخمسة جنيهات، ومسجد قايتباى على الورقة فئة المائتين جنيه، ومسجد السلطان حسن على الورقة فئة المائة جنيها إضافة إلى وجه أبى الهول، كما أن هناك أعمدة فرعونية الطابع وبعض الجداريات، إضافة إلى العجلة الحربية، وعلامة مائية للكاتب المصرى على الورق فئة العشرين جنيها. ثمة استثناءات قديمة لمسألة استخدام صور الأشخاص المعروفين وأصحاب الوجاهة، فقد ظهرت مثلا صورة الملك فاروق عام 1949 على ورقة نقدية من فئة الخمسين جنيها، لكنها حُذِفَت عام 1952 وحلت محلها صورة توت عنخ آمون، والسبب على الأرجح مفهوم من واقع ملاحظة التاريخيين.

•••

فكرت ماذا لو قرر البنك المركزى المصرى، أن يستفتى المواطنين على اختيار صورة أحد المشاهير، ليضعها على ورقة من الأوراق النقدية؟ ولم أجد للحق، وعلى مدى التاريخ سوى ندرة من الشخصيات يمكن التوافق عليها، حتى من بين المبدعين، لا لضعف إنجازهم بل لهوة ثقافية وقعنا فيها منذ زمن. تساءلت أيضا فى تخابث متأملة ما فى حافظة نقودى: أين من عديد صور المعابد والمساجد صور الأديرة والكنائس؟ ثم تساءلت إن كنا سنرى تماشيا مع الأحداث والواقع، الذى لا نملك منه فكاكا، صور السجون الجديدة على أوراق النقد فى المستقبل، إذ هى تمثل ملمحا رئيسا من ملامح الحكم الحالى. فكرت إن أبى الهول ومراكب الشمس والمسلات ومعالم الحضارة القديمة لم تعد ملائمة.

•••

رأيت فى نوبة شرود صورا لهؤلاء الشابات والشبان، المخفيين بفعل فاعل معروف، تزين أوراق النقد. لا لأفعال عظيمة أنجزوها وإنما رمز لقدرة الأضعف على البقاء. انتصرت المرأة السمراء التى ظلت لسنوات عبدة على الرئيس الأبيض، الذى مكث لسنوات فى الحكم، وربما ينتصر المخفيون يوما على هؤلاء الظاهرين الذين يملأون المساحات كلها بصور مكئبة، ويبثون فى الأجواء غثاء لا يحتمل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات