قبل أسبوعين تقريبا، وعَقِب خروج الملايين فى الثلاثين من يونيو إلى الشوارع والميادين، غَيَّرَ مواطنو الأقصر علم المحافظة، واختاروا رمزا من رموز مصر القديمة للعلم الجديد الذى صار أحمر اللون، يحمل تاج الجنوب الفرعونى وعلى جانبيه زهرتا لوتس.
بينما كُتِبَت كلمة «طيبة» باللغتين العربية والانجليزية.ظهر هذا الخبر فى سطور قليلة على صفحات بعض الجرائد.
بَحَثت عن العلم الأصلى للمحافظة، فوجدته يَرمُزُ أيضا إلى حضارة مصر القديمة؛ لون أخضر قاتم، بوابة معبد فرعونى ومواطن مصرى يتوسطها. لم يكن تغيير العلم إذن، محض رغبة فى الإعلان عن الجذور، لكنه كان كما طالب الأقصريون؛ إسقاط نظام حاكم استشعروا منه خطرا أكيدا على هوية المكان.
•••
لأيام متواصلة ارتفعت الرايات السوداء فى ميدان رابعة العدوية، وحول تمثال نهضة مصر، الرايات ذاتها التى اختارها تنظيم القاعدة المسلح منذ البدء لتكون عنوانه وعلامته.
وقد تفرقت هنا وهناك أعلام لدول إسلامية وعربية دون أن تشكل كثافة تذكر. اختفت الرايات السوداء إذ فجأة وحل محلها العلم المصرى بألوانه المعتادة، وقيل فيما قيل إن تلك هى نصيحة أحد المحبين، قدمها إلى معتصمى رابعة والنهضة، حتى يكتسبوا تعاطف الآخرين، ويتجنبوا اتهامات بالعمالة وعدم الانتماء إلى الوطن وتغييب الهوية وطمسها.
•••
تجاذب كثير من الناس بعد نصر الخامس والعشرين من يناير أطراف الحديث حول العلم المصرى؛ شكله، ألوانه، مضمونه. انطلقت مناقشات مطولة واستضافت القنوات الإعلامية أشخاصا طرحوا تصميمات جديدة للعلم الذى قيل إنه لا يعبر عن الهوية المصرية وألا معنى لألوانه وتكوينه؛ لا يعكس خَضَار وخصوبة الأرض، ولا قِدَمَ الوجود والحضارة، ولا عطاء النهر.
لا يوحى بشىء مما تشتهر به مصر بين دول العالم رغم ما له من تاريخ طويل تغير خلاله اللون وانقسم إلى ثلاثة، وانتُزِعَ الهلال وأُضِيَفت النجمتان تحقيقا لحلم الوحدة، ثم حَلَّ النسر محلهما واستقر. دار الجدل لفترة ثم لم يلبث أن خبا، واشتعلت الأحداث على الأرض مجددا ومن ثم انشغل الناس معظمهم بأمور أخرى.
•••
عقب كل انتصار يتحقق يبحث الناس عن راية يرفعونها إعلانا عن وجودهم وتوهجهم والخاطرة الأولى عند تحرير أرض محتلة هى غرس العلم فى ترابها تأكيدا على هويته.
وأول ما يفعله الجندى الذى يتلقى العلم بين راحتيه هو إحناء رأسه عليه وتقبيله فى اعتزاز، يتلخص الوطن الذى يحارب من أجله فى قطعة قماش لكن قطعة القماش تلك تكتسب قيمة كبرى فتبيت قبلة الولاء ومقصد الدفاع والحماية ومن دونها الموت.
يغدو العلم شرفا حين تتدثر به جثامين الشهداء وسبيلا للإهانة حين يُلقَى أرضا فتدوسه الأقدام، وكثيرا ما غضبت الجماهير على سياسات بلد أو آخر فمزقت علمه وأشعلت فيه النيران؛ لطالما احترق علم اسرائيل فى جامعات وشوارع مصر وأُضِيفَ من بعده إلى القائمة علم الولايات المتحدة وسارت على الدرب نفسه أعلامُ لدول أخرى لكن الظروف أنقذتها وكفاها الحرجُ والتاريخُ المشتركُ شَرَّ الاحتراق.
•••
لا يرمز العلم إلى الدولة فقط، فهو لغة وخطاب؛ يخفق على ساحل البحر فتصل إلى المصطافين رسالة بغير كلمات قد يعرفونه نذيرا بسوء الحال أو بشيرا بِطِيبِها، فإن استوى أحمر اللون مزدوجا كان إشارة على الموج الهائج والريح الهادرة، وقد عُرِفَت الراية الحمراء قديما كتحذير من الفيضان وحديثا كعلامة على استعدادات عسكرية وذخيرة حية بينما استُخدِمَت البيضاء لإعلان طلب الهدنة أو الاستسلام.
تميزت مواكب بعض الطرق الصوفية كالقادرية بالرايات والأعلام الخضراء دلالة على الوصول إلى مقام الإخلاص والنفس الراضية، ويقال أيضا دلالة على الانتساب لآل البيت، والأخضر هو اللون نفسه الذى تحررت منه ليبيا منذ عامين تقريبا بإصرار شديد: أسقطت علمها الأخضر وكتابها الأخضر وتخلصت معهما من خطاب شاذ ابتدعه القذافى؛ ملك الملوك وقائد ثورة الفاتح الذى اغتيل فى أكتوبر عام 2011، فلم يأسف عليه كثيرون.
•••
صدحت أم كلثوم بكلمات أحمد رامى عن الكبرياء والمجد والوطن، فكان مِن أَجَلّ تعبيرتها «عيشوا كراما تحت ظل العلم». ارتبطت الكرامة بالعَلَمِ كما ارتبطت به الهويةُ أيضا. بدأنا منذ زمن قليل رحلة بحث جديدة عن هويتنا بعدما سقطت أقنعة كثيرة متيبسة وانكشفت الحُجُب عن جزء من الزيف ثم تهاوت المسلمات واهتز اليقين وقد أدركت بعضَ الناس الحاجةُ إلى عَلَمٍ جديد يُعَبِّرُ عن هوية مصر الثقافية والحضارية التى يُعَادُ اكتشافها الآن عبر صراعات مريرة