صباح شريف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباح شريف

نشر فى : الجمعة 20 يوليه 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 20 يوليه 2018 - 9:25 م

كان النسيمُ عليلًا، والفرحةُ تملأ الوجود. صبيحةٌ مُشرقة؛ الناسُ يسيرون في نهر الطريق، والسياراتُ تقف على الرصيف في هدوء، بينما القط الأسمر ذو الذيل المبتور؛ يقفز إلى صندوق القمامة الرماديّ، غير عابئ بما تبعثر حوله مِن بقايا طعام، عازمًا على النبش بنفسه فيما اختفى وطاب.
***
عَلا بوقُ عربة الإسعاف المُتعجِّلة يناشد المحيطين إفساح الطريق، فيما ظلَّ سائقها المجتهد مُلتزمًا بحارته، لا يفتنه غيابُ الخطوطِ البيضاء مِن وجه الأسفلت، ولا يحرضُه على اتخاذ مَسارات مُتعرجة. تجاوزه توك توك سريع، يجلس خلف مقوده ولد صغير ماهر، ويتمايل به يمنة ويسرة، مؤمنًا بقدرته الفائقة على المراوغة، والوصول بزبونته الوحيدة إلى وجهتها في زمنٍ قصير؛ لكنه ارتطم إذ فجأة بغطاءِ بالوعة بارز، لم يكُن على هذه الحال حتى ليلة أمس؛ فانقلبت المركبة ذات العجلات الثلاث على جانبها، وصرخت السيدة، وتباطأ الجميع، ثم توقفت حركةُ المرور تمامًا، بينما استطاعت الإسعافُ بفضل بديهة السائق أن تخترق الحشد، وتمرق بمرونة تستحق الإعجاب.
***
بين أفرع الشجر العالية التي تناجيها سحبٌ خفيفة، لمعت مصابيح النور؛ لا تضايقها أشعةُ الشمس القوية ولا تحثُّها على الانطفاء. بدا امتزاج الضوئين رغم تباين مصدريهما؛ بمنزلة لوحة فنية غنية، وباعثة على التأمل؛ خاصة وقد أُضيفت إليها الومضات المُتتابعة على رأس الإسعاف؛ لتصنع مِن المشهد احتفالية مَجيدة، استدعت تريث السائرين.
***
مرَّ السائقُ بتؤدة وسط الغبار المُتصاعِد مِن عملية هدم بيتٍ، طاعنٍ في القدم، وقد أضفت الأطلالُ على المشهدَ شاعريةً مُحببة إلى النفوس، لم ينتقص منها ما للأحجار الساقطة مِن تاريخ عريق. أخرج السائق ذراعه اليُسرى مِن النافذة، وأشار إلى الجرَّافات التي تعبد الأرض وتمهدها على الناحية المُقابلة: دا كان مكان الترام، هايوسعوا الشارع.
***
ابتسم مرافقُه ابتسامةً واسعة رقيقة؛ ممتنًا للجهود المتواصلة التي تُبذَل في إخلاصٍ حقيقيّ، مُستهدِفة إسعاد المواطنين؛ لا تعوقها العقول الشريرة، المُتمسكة بإرث عديم القيمة، ولا تعطّلها دراساتُ الجدوى التي لا تنفع في شيء. ألقى نظرةً خاطفة على المريض النائم في الخلف، فطالعه وجهُ المُمَرض بعينين حالمتين ترنوان إلى الأفق، وتتماهيان مع الأدخنة الناعمة التي ينفثها مِن مؤخرته الأتوبيس؛ لتغمر الكتلة البشرية الحاضرة في هذه اللحظة، دون استثناءات.
***
امتدت يد تضغط زرًا دائريًا صغيرًا في لوحة القيادة؛ فانبعثت ألحان لا تخطئها أذن، وراح الجالسان يدقان بأصابعهما على أبواب العربة في تناغم رائع، هامسان بكلمات النشيد الوطني، مُضفيان البهجة على رحلتهما، وعلى جيرانهما في الطريق، مُتغلبان بمرحهما على حال المريض الحرجة.
***
قبل الوصول إلى المستشفى بدقائق، تقاربت السيارات أمام الإسعاف، وخلفها وعلى جانبيها، ثم راحت تزحف في محاولة جادة لقطع أشبار قليلة؛ قبل أن تتلاصق تمامًا وتكفُّ عن الحركة، فيما تتناثر التكهنات بين الأفواه: حادث كبير، نقل تعطلت، هبوط أرضيّ. تبين بعد قليل أن الناحية الأخري مِن الشارع العريض سوف تشهد حدثًا مُهمًا؛ فقد خلت تمامًا مِن السيارات، ولاحت مُشرقة بهية بالأعلام والورود، وسُرَّ لمرآها المحبوسون، وتأكدوا أن موكبًا سوف يمر، فأطفأ السائق النبيل سارينته احترامًا، بل وزاد مِن تقديره للموقف؛ بأن أطفأ مُحرك العربة وأشعل سيجارة، وفي رأسه يتكرر صوت المذيع المتفاني؛ مُنبهًا السامعين إلى المبلغ الضخم الذي يتم صرفه سنويًا، دعمًا لأسعار الوقود.
***
في أغلب الأحوال: وصلت الإسعاف إلى مقصدها بسلام، لكن الراوي ليس أكيدًا من أن المريض عاش، ربما لم يكن كفؤًا بما يكفي، وربما نجا مُخالفًا التوقعات؛ أما السائق فقد استأنف عمليات الإنقاذ في سعادة، وواصل الصبيّ تراقصه بالتوك توك مطورًا من مهاراته بما يليق، بينما لم تُصَب الراكبةُ بمكروه؛ إذ نطقت الشهادتين وأتبعتهما بالنشيد. كسا السواد مكان الترام، وتحولت الأطلالُ إلى برج عظيم؛ حجب شيئًا مِن أشعة الشمس، حاميًا منها العابرين، فيما استمرت أعمدة النور في بث أضوائها على مدار الساعة؛ مُبدلة صفارها المعتاد ببياض خفيف. صباح متجدد شريف.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات