على عكس توقعات الغالبية العظمى من المصريين، جاءت مواقف السودان خلال مفاوضات سد النهضة ــ فى رأيهم ــ منحازة فى الكثير من الأحيان لإثيوبيا بل ومؤيدة لها فى مواقفها المتعنتة، رغم الخطورة التى يمثلها السد ــ وإن بدرجات متفاوتة ــ على البلدين، فهو إن كان يهدد مصر بالعطش وبوار مساحات كبيرة من الاراضى الزراعية، فهو يهدد السودان بالغرق إذا ما انهار، ويزيد من شهية أديس ابابا للاستيلاء على الاراضى الحدودية الخصبة بينهما إذا بقى صامدا، لأنه سيعطيها القدرة على استخدام سلاح الماء لفرض شروطها على السودان، بل ويمكنها فى المستقبل من بيع ماء النيل لدولتى المصب كما تطالب بذلك مؤسسات مالية غربية على رأسها البنك الدولى!
لكن المتابع للشأن السودانى يدرك جيدا أن هناك تحولات هيكلية شهدها العقل السياسى السودانى خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أصبحت تمتلك حاضنة شعبية واسعة تتزايد بمرور الوقت، وربما يأتى على رأس هذه التحولات اعتراف الأقلية الشمالية بسقوط مشروعها العروبى طوال حكم نميرى ثم مشروعها الدينى فى عهد البشير فى الهيمنة على كل العرقيات غير العربية والإسلامية فى السودان، وأن سياساتها بفرض الاندماج القسرى ــ لا الوظيفى والمؤسسى ــ على بقية الإثنيات السودانية بالسلاح قد فشلت، وقد جاء انفصال الجنوب كمحطة فارقة فى هذه التحولات.
قطاعات واسعة من الشماليين فى السودان الذين ينحدرون من تزاوج أصول عربية وإفريقية بدأوا يعيدون الاعتبار للجانب الإفريقى من هويتهم بل ويقدمونه على الجانب العربى، والكثير من النخب الشمالية أصبحوا يقولون صراحة إننا ــ كسودانيين ــ أفارقة ولسنا عربا، وبعضهم يطالب بالانسحاب من الجامعة العربية ليس لأنها فقط اصبحت كالجثة الهامدة، ولكن لأن النظام الاقليمى العربى لم يحقق أهدافه فى التنمية الاقتصادية والديمقراطية، كما أنه من وجهة نظرهم مارس ضغوطا على السودان خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل، ومنعهم من الاستفادة من تطبيع العلاقات معها، علاوة على تأييده لنظم الحكم الديكتاتورية التى كانت تحكم السودان!
هناك بالقطع تيارات شمالية تعارض هذه التوجهات فى تطرفها ضد طمس أى وجود عروبى فى الهوية السودانية، لكنها أيضا تطالب بمد الجسور مع إفريقيا، فى حين يبقى فريق ثالث يبدو كما لو انه يحارب طواحين الهواء، وهو يحلم باستعادة السودان القديم وهيمنة المركز العروبى على أطرافه فى الجنوب والغرب والشرق!
وسط تفاعلات هذه التيارات الثلاثة تأتى مواقف السودان الرسمية فى مفاوضات سد النهضة التى تبدو فى بعض الأحيان متعاطفة مع إثيوبيا ضد مصر، وفى أحيان أخرى ضد المخططات الأثيوبية للهيمنة على النيل الأزرق.
تعاملنا فى مصر مع السودان بناء على السياسات التى كنا نتبعها سابقا ستزيد الهوة بين البلدين، فلا بديل أمامنا سوى دعم التوجهات السودانية الراهنة الساعية لبناء نموذج حكم ديمقراطى طبقا لتوجهات ثورة ديسمبر 2019 التى أسقطت حكم البشير، وإلا فإننا سنخسر للأبد أهم حليف استراتيجى لنا فى إفريقيا بل وربما فى العالم كله!