لو أن أحدهم قال بأننى سأكون بعد اليوم فى موقف الحياد فيما بين فلان، الذى عرف عنه أنه كان شريرا ومؤذيا وانتهازيا فى كل تصرفاته تجاه هذا المحايد، وما بين فلان، الذى عرف عنه الهدوء والتعقل والتصرف الحسن تجاه هذا المحايد.. لو أن أحدهم قال ذلك لوصف من قبل الناس بأنه لا يمارس التصرف المعقول العادل المتزن فى علاقاته الاجتماعية. إذ كيف يساوى فى قربه أو بعده بين شخص محبب وشخص مكروه.
الأمر نفسه ينطبق على فهم وممارسة شعار الحياد فيما بين التكتلات الدولية الذى ترفعه هذه الدولة العربية أو تلك. ولنأخذ مثال شعار الحياد، المطروح أخيرا بصوت عال فى الأرض العربية، فى علاقات هذه الدولة العربية أو تلك مع كتلة الولايات المتحدة الأميركية ومن يتبعها ويؤازرها فى كل تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية من جهة، ومع التكتلات الدولية الجديدة التى تضم دولا تحاول التخلص من الهيمنة الأميركية الخانقة، وعلى الأخص هيمنة الدولار فى شئون المال، وهيمنة التكنولوجيا فى شئون التواصل الإلكترونى، وهيمنة القوة والتفوق العسكرى، من جهة أخرى.
كيف يمكن معادلة مقدار دفئ وحميمية العلاقة الاستراتيجية المتميزة فيما بين العرب وأمريكا وبعض دول أوروبا من جهة وبين دول من مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل من جهة أخرى.
فالكتلة الأميركية، ومعها دول غربية عديدة، لها تاريخ استعمارى أسود مع العرب تمثل فى الإصرار على نهب ثروات هذه الأمة وتجزأتها والمساعدة فى اغتصاب أرض فلسطين وتشريد أهلها وفى التدخل اليومى فى كل شئونها الداخلية وفى ابتزازها المالى والعسكرى الدائم وفى منعها من الخروج من ضعفها وتخلفها التاريخى بشتى الأساليب.
بينما أن دول الكتلة الأخرى لم تستعمر قط أرضا عربية ولم تبتز قط دولة عربية ولم تساهم بأية صورة فى تخلف العرب وضعفهم ولا فى حماية مغتصبى أرض فلسطين. وكل ما تطلبه هذه الكتلة هى علاقات عادلة وتبادلية فى مختلف حقول النشاطات الإنسانية.
ولذلك فإن حمى اللقاءات والزيارات والخطابات المبشرة بعلاقات حب وزواجات مستقبلية مع الكتلة الأميركية تضيف شكوكا جديدة فى أذهان وقلوب الشعوب العربية وتضيف تأكيدات لا تتوقف بانتشار الخلط والفوضى فى فهم وتعريف كلمات الفكر والعمل السياسى. فلا يكفى أن منطلق شعار الحياد هو خاطئ وملتبس حتى يطال ذلك التطبيق اليومى لهذا الشعار ويختلط الحابل والنابل.
أليس قمة الفوضى فى العمل العربى المشترك أن لا تتوقف الوفود عن نسيان ما فعلته الولايات المتحدة وحلفائها من تدمير تام للعراق وإرجاعه مئات السنين إلى الوراء، وتدمير واحتلال وتجزأة لسوريا واستمرار فى محاصرة الشعب السورى وتجويعه، وتمزيق للسودان واحتلال لليبيا وتجويع للبنان، ولعب أشكال من المراوغة والنفاق عبر الأرض العربية كلها؟ فما أن تهدأ النيران فى بقعة حتى تشتعل فى منطقة أخرى، ودائما يثبت أن لهذه الكتلة، التى تحمل توجها تاريخيا لتقسيم هذه الأمة وإضعافها وخلق الفتن فيها وزرع الصراعات فى كل بقاعها، اليد الخفية فيما يحدث.
لنعد مرة أخرى إلى قلب الموضوع: إذا كان هذا النوع من الحياد فيما بين الأفراد مستهجنا ومستغربا، فكيف إذا كان بين الشعوب والدول؟ خصوصا إذا كانت بعض هذه الدول مدارة من قبل أنظمة حكم أصابها أخيرا الخرف والجنون وأصبحت لا يهمها لو أن العالم كله احترق طالما أنها تبقى مهيمنة وصاحبة الكلمة العليا والوحيدة.
والسؤال الأهم هو: متى ستدرك مؤسستا القمة العربية والجامعة العربية التفكير جديا فى تكوين كتلة مشابهة للناتو عربية متناسقة قادرة على أن تحمى أى دولة عربية من الاستباحة. إذا كان كل ما نراه من محن وآلام ودموع وفواجع طبيعية لا يحرك ساكنا فى نفوس المسئولين عن هاتين المؤسستين القوميتين، فهل وصلنا إلى مرحلة الاستسلام التام لمسرحية التلاعب بأقدارنا من قبل كل من هب ودب ومن كل حدب يا شباب وشابات الأمة تنبهوا إلى أن تفرقوا فيما بين الشعارات المخادعة أو المبهمة والشعارات الصادقة فكرا وتطبيقا.