فاروق شوشة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 10:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فاروق شوشة

نشر فى : الخميس 20 أكتوبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 20 أكتوبر 2016 - 9:30 م
قبل مرور ثلاثة أشهر على هزيمة ١٩٦٧ وتحديدا فى شهر سبتمبر من هذا العام انطلقت أولى حلقات البرنامج الإذاعى «لغتنا الجميلة». أظن ــ وليس لدى ما يدعم ظنى ــ أن توقيت إطلاق البرنامج الشهير كانت له دلالته، ففى أعقاب الانكسارات الوطنية عادة ما تنشأ معركة ثقافية بين موجة ابتذال أدبى وفنى تعكس طبيعة المرحلة المتردية المعاشة وبين موجة استنهاض فكرى وثقافى تحافظ على قوام الأمة وتحاول أن تستنهضها. وأحسب أن برنامج «لغتنا الجميلة» كان مكونا رئيسيا من مكونات الموجة الثانية، والحقيقة أنه لم يكن وحده فَلَو تأملنا الفترة من يونيو ١٩٦٧ وحتى ما قبل اندلاع حرب أكتوبر سنجد ثروة كبيرة من الأعمال الإبداعية التى تمثل علامات بارزة فى تاريخ الفن المصرى، ويكفى أن نذكر أفلاما مثل «الأرض» أو «شىء من الخوف» وأغنيات مثل «فدائى» أو «أصبح عندى الآن بندقية» لنتبين هذه الحقيقة. أما الموجة الأولى فكانت من نصيب الفن الهابط الذى غلبت عليه الكوميديا بجلاء.

***

صنع برنامج «لغتنا الجميلة» شخصيته الفريدة من الحلقة الأولى، يبدأ البرنامج بعبارة «هنا القاهرة» لفاروق شوشة، ثم تتلو صفية المهندس بصوتها الرخيم بيتا من إحدى قصائد شاعر النيل حافظ إبراهيم:

«أنا البحر فى أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى»

ومن بعد تصدح موسيقى هادئة ينساب خلالها صوت فاروق شوشة عميقا دافئا يشدد على اللام المضمومة، قائلا «لغتنا الجميلة، لقاء يومى يعده ويقدمه فاروق شوشة» ويبدأ الحكى. يبدو لى أن اختيار البيت الذى كان يستهل به شوشة برنامجه لم يكن مصادفة، أراه يعكس ولعه بالغوص فى أعماق اللغة ليستخرج الأنفس والأحلى من لآلئ اللغة العربية. فأحد دواوين شعره المبكرة حمل عنوان «لؤلؤة فى القلب»، والأرجح أن تلك شيمة المبدعين ممن لا يقنعون بسطوح الأشياء المكشوفة للعامة ويقررون الغوص فى الأعماق فمثله سبح الموسيقار عمار الشريعى فى برنامجه الإذاعى المعروف «غواص فى بحر النغم» وخرج لنا بنوادر الأغانى العربية. بل لعلى أمد التحليل خطوة أبعد فأقول إنه حتى على المستوى الشخصى يبدو واضحا ولع شاعرنا الكبير فاروق شوشة بالدرر المخبوءة فى قيعان البحار، وهكذا فحين رزقه الله بابنتين اختار لإحداهما اسم يارا، وهو اسم غير عربى له معانٍ عديدة، منها: اللؤلؤة فى أعماق البحار، والجنية البحرية ذات الشعر المنسدل.

***

يقودنى حديث الأسماء ومعانيها إلى مناسبة خاصة جدا فى حياتى قدر لى فيها أن ألتقى بفاروق شوشة لا بل وأعمل معه. الزمان عام ١٩٨٥، والمكان كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. ففى أحد الأيام استدعانى وبعض زملائى الدكتور على الدين هلال ــ مدير مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية حينذاك ــ وأنبأنا عن مشروع كبير سيشرف على تنفيذه فى إطار الكلية بتكليف من سلطنة عمان. وكان السلطان قابوس بن سعيد قد اهتدى لفكرة عمل غير مسبوق تتمثل فى إصدار موسوعة تضم كل الأسماء فى بلداننا العربية: قديمها وحديثها، العربى منها والأعجمى، البسيط والمركب، الحضرى والبدوى والريفى.

ولم يكن العمل كما قد يتراءى للقارئ مجرد عمل لغوى لكنه كان عملا اجتماعيا ــ سياسيا ــ اقتصاديا بامتياز، ففيه رصد لتلاقح الحضارات وتفاعلها، وفيه تحليل لعلاقة الأسماء بالأصول الطبقية والتوزيع الجغرافى والمستوى التعليمى للجماعات المختلفة، وفيه إقرار بأن الاسم كائن حى له دورة حياة يبرز فيها ويخبو لكنه لا يموت. ترأس فريق العمل المركزى الدكتور على الدين هلال، أما أعضاؤه الآخرون فكانوا الدكتور محمد بن الزبير المستشار الاقتصادى للسلطان قابوس ومؤسس أول جامعة فى سلطنة عمان، وشاعرنا الكبير فاروق شوشة، وأستاذا الأدب واللغة العربية الدكتوران محمود فهمى حجازى والسيد محمد بدوى. وكان للفريق المركزى أذرع فى اثنتى عشرة دولة عربية شملها العمل، كما كان له مساعدون كثر من الشباب وكنت وثلاثة من زملائى فى عداد هؤلاء.

أى متعة تلك وأنت شاب فى الثلاثين من عمرك أن تجلس بين الحين والحين مع تلك القامات الكبيرة لتتعلم منها كيف يدار النقاش الموضوعى فى أعقد الأمور المنهجية، فأن تحصر الآلاف من أسماء العرب ليس بالأمر السهل بل هو أمر شديد الصعوبة. كان الذهاب إلى تلك اللقاءات باعثا لبهجة غير عادية، نتسمر أمام مالكى نواصى الكلام ونتبعهم فى رحلتهم من السطح للأعماق، ثم نملأ سلالنا/أوراقنا باللآلئ، ونكتشف معانى أسماء قد جهلناها. استمر العمل خمسة أعوام ثم نشر لاحقا تحت اسم «موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية»، وبينما ذاع أمره كعمل رائد فى الخليج لم يكد يسمع به أحد فى مصر وليتنا نودع منه نسخا فى كل مكتباتنا.

انتهى العمل الذى كان يسمح لنا بلقاءات متباعدة مع فاروق شوشة، وصارت المناسبات الوحيدة للقياه فى الإفطار الرمضانى السنوى لكلية الاقتصاد، فزوجته الإعلامية الكبيرة هالة الحديدى من خريجات الكلية ثم إنه شخصيا من أصحاب البيت. وبالطبع لم نكن لنسمح بمرور تلك اللقاءات دون أن نسمع أبياتا من شعر فاروق شوشة. وأذكر ذات مرة حديثه عن ثلة من الجميلات التقاهن فى مهرجان شعرى بالأردن وكان بهاؤهن تاما وحضورهن لافتا وعطرهن طاغيا إلى حد غمر المكان وأثر فى شاعرنا فإذا به يكتب قصيدة بعنوان «للعبير اختناق»، ويا لبلاغة التعبير.

***

فاروق شوشة سنفتقدك جدا، سنفتقد ابتسامتك التى لا تفارقك، وكأنك خلقت بها أو خلقت لها، سنفتقد لينك وحلمك وسكينة طبعك، سنفتقد ترفعك عن شيم «الخدم» ــ كما وصفتهم فى إحدى قصائدك ــ قاصدا المثقفين الآكلين على كل الموائد، سنفتقد صوتك العميق عمق البحر الذى أدمنت الغوص فيه، وسنفتقد لسانك الفصيح جدا فيما تذبح لغتنا الجميلة فى مجالسنا، وفى مدارسنا وفى إعلامنا، سنفتقدك بما أنت فارق بين مدارس شعرية عديدة وسنفتقدك بما أنت أنت.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات