لفَّ الرَّجلُ في الاتجاه العكسيّ وقطع نصفَ المَسافة إلى أن التقى في وَجهه عربةً تمضي في الاتجاه الصحيح، ولم يكن من متسع للاثنين معًا؛ لكنه أبى التراجُع. أبطلَ المُحرك ودفنَ عينيه في المَحمول علامةً على عدم الاكتراث. برزت مِن نافذة العربةِ المُقابلة سيدةٌ غاضبة، صاحت فيه: حسّ على دَمك، ولم يكُن قولها كما أدرك كلُّ سامعٍ إلا ذمًّا صريحًا مُشبعًا بالاستنكار؛ فالمَوقِف يستدعي التحرُّك والواقفُ ساكنٌ هادئ البال، لا يعنيه أن يسدَّ الشارعَ ولا أن تتداخلَ السياراتُ وتشتبك ويتوقف المرور تمامًا.
• • •
هذا الذي لا يَحسّ يُوصَف عادةً بأن دمه بارد؛ إذ البرودةُ تخفضُ درجةَ الإحساس؛ فإن انعدمت الأحاسيسُ جُملةً وتفصيًلا قيل: ليس لديه دمٌ على الإطلاق. نَعرف أن الدماءَ التي تجوب الشرايين والأوردة مَصدرٌ من مَصادر الدفء، وقد درسنا في الصِغَر أن الكائنات الحيَّة تنقسم إلى فئتين؛ ذوات دَمٍ حار وذوات دَمٍ بارد، للأولى ينتسبُ الإنسانُ وللثانية تنتمي الزواحفُ والبرمائياتُ وغيرها. لا يُعد هذا التصنيفُ دقيقًا لدى العلماء؛ لكنه ذو فائدة أكيدة حال استخدامنا البلاغةِ والمَجاز؛ فبعضُ البشر قد ينقلبون زواحفَ في غَمضةِ عَين ليحق الوَصفُ عليهم.
• • •
يَقول المأثورُ الشعبيّ إن الإحساسَ نعمة؛ والمعنى أن هذا الذي تبلَّد وفَقَد قدرتَه على إدراك الأشياءِ لفي نقمةٍ كبرى على المستوياتِ كلها، فلإن عجزَ المرءُ عن استقبالِ المشاعر وإرسالها؛ صارت حياتُه جافةً مُجدبة، ولإن اختل سَمعه أو بصره؛ ارتبك فعله وتعطَّلت حركتُه إلى أن يتكيَّف ويتمكَّن من تعويضِ النَّقص.
• • •
يأتي الفعل حسَّ في قواميسِ اللغةِ العَربيةِ بمعنى أدرك؛ حسَّ المرءُ الشيءَ أيّ استوعبَه بإحدى الحَواس، وحسَّ بالخبر أيّ أيقن به، وحسَّ بالآخرين أيّ شعر بهم وبأحوالِهم، وحسَّ لصاحبه أيّ تألم له. ثمة مَعنىٍ آخر على قدرٍ من الاختلاف؛ فإذا قيلَ حسَّ الشعبُ عدوَّه؛ كان القصدُ أنه استأصله بقوةٍ وعَزم، وإذا حسَّ الصقيع النباتَ؛ كان المرادُ أنه قضى عليه من فَرطِ البرودة، وبالمثل يكون فعيلُ الجَّراد بالمزروعات؛ فإن نزلَ بأرضٍ حسَّها وقضَمَ ما فيها وأجهزَ على محاصيلِها وتركها قفرًا مُوحشًا.
• • •
حَسُّ الجذر من أرضه وانتزاعه من مكانِه فعلٌ شديدُ الصعوبةِ عصي على التنفيذ. ربما أمكن بتر أفرعَ الشجرة أو قطع جذعَها؛ أما الجذورُ العتيقةُ المُعمرةُ فتبقى ضاربةً في عمق التربة مُتشبثةً بها؛ لا تغادرها مهمًا طال الزمنُ وامتد، وإذ يسعى العدوُّ لاقتلاع أهل فلسطين من مَغرسهم بشتَّى الطرق؛ فإنه إلى فشلٍ لا مَحالة، وإذ يتمادى في الغيّ ويُوغل في الدماء؛ فعلامةُ ضَعف داخليّ يُدركُه ويَرتعِب مِنه ومِن أثرِه على وُجوده الهشّ، وإن يَجد مَن يعاونُه؛ فإلى صفحاتِ التاريخ العفِنة المتقيحة.
• • •
تؤخذ الأشياء حسًّا أو بسَّا أي؛ بعنفٍ أو برقَّة. تلعب مُوسيقى الحرف هنا دورًا لا يُنكَر؛ فالحَسُّ يُوحي بالشِدَّة والحاء أول الأحرف في كلمة حَرب، أما البّسُّ فإيحاء باللين والرفق؛ فإن نادى الواحد هرة قال بس بس، وفيها الكثير من الحدب والعطف.
• • •
نتحدث كثيرًا عن الحواسّ الرئيسة الخمس؛ البصر والسمع والشمّ والتذوُّق واللمس؛ أربع منها مَوضعها الرأس، أما خامسها فتنقله أعصاب متخصصة تمضي في مسارات حددها العلم، تسري بطول الجسد إلى أن تصل الدماغ وتخاطب مراكز الإحساس وتعطيها تقريرًا مفصلًا بما مرَّ على البشرة؛ ما دغدغ وما أوجع أو أحرق، وما هدأ وأرخى.
• • •
الحاسَّةُ السادسةُ أمرٌ غامضٌ لا تفسير له؛ حَدسٌ يُؤكد لصاحبِه أمرًا من الأمور دون دليل أو بيِّنة؛ فقط شعور طاغ قد لا يَقتنع الناسُ بصحَّته؛ لكنه يتحقَّق مرات، وغالبًا ما تكون له مُعطياتٌ إنما مُتوارية لا يتمكن كثيرون من التقاطها، وربما لا تدركه إدراكًا واعيًا جليًا سوى قلة قليلة، ليبقى في عرف الغالبية العظمى سرًا كامنًا وراء العقل والطبيعة.
• • •
مرت أعوام ولم يزل مَوسمُ الحرائق التي تخنقُ الأنفاسَ يتكرَّر في موعده؛ دون أن يخلفَه عامًا واحدًا. يمتلئ الجوُّ برائحةٍ خانقةٍ تتحسَّس لها الأنوفُ والصدور المُعتلَّة، وتستجيبُ الأغشيةُ المخاطية بعنفٍ للعوامِل المُؤذية، فتحتقن وتفرز السوائل دفاعًا عن نفسها، وتنبه أصحابَها لضرورة اتخاذ أسبابَ الوقاية والحذر.
• • •
ثمَّة إحساس غامر لدى بعض الناس بأن شيئًا يدبر في الخفاء؛ تصعيد مُخيفٌ على مَقربةٍ من الحدودِ الشرقية،، وأنباءٌ لا يُعرفٌ مدى صدقٌها عن خُططٍ؛ تقضي باقتصاص أجزاءٍ من الأرض عزيزة. كلها شواهد تستثير الحسَّ وتغذي الحَدسَ، تدفع للتأمل الطويل وتقضُّ المضاجع.