منذ ثلاثة أيام طُرد النائب عبدالعليم داود من جلسة البرلمان، وحُول إلى هيئة مكتب المجلس، التى يمكن لها أن تحوله إلى لجنة القيم. ما حدث هو أن النائب تَهكَّم على حزب الأغلبية؛ حيث وصفه النائب بأنه حزب كراتين، فى إشارة إلى حصول الحزب على أصوات الناخبين باستغلال عوز الناخبين بمنحهم رشى تموينية فى الانتخابات الأخيرة. النائب عبدالعليم داود تفوه بكلمات طُرد من أجلها خارج القاعة، فى ذات الوقت تقريبا ومع بداية عمل البرلمان السابق عام 2016؛ حيث عوقب النائب كمال أحمد بسبب ضرب زميله توفيق عكاشة بالحذاء تحت قبة البرلمان فى فبراير 2016، لمقابلة الأخير للسفير الصهيونى بالقاهرة. عشرات الأحداث التى سبق لنواب أن طُردوا من قاعة المجلس، أو حُولوا للجنة القيم وربما سُجنوا، وكان جميعها بسبب الرأى الذى وصل أحيانا إلى سباب وعراك، أبرز الوقائع فى هذا الشأن واقعة عباس محمود العقاد الذى سب الملك فؤاد فى أكتوبر 1930 داخل مجلس النواب، وإسقاط العضوية عن طلعت رسلان فى فبراير 1989 لتعديه على زكى بدر، وزير الداخلية، الذى سبق له أن ألقى خطابا مستفزا أمام المجلس، وحرمان النائب الراحل علوى حافظ من حضور 10 جلسات لاتهامه رئيس الحكومة فى إبريل 1988 بأنه رئيس حكومة لصوص وفسدة، لتشريعها قانون ينظم بيع الأراضى والعقارات للأجانب. وفى الخارج كانت هناك حوادث واعتداءات كثيرة وقعت خلال الأعوام القليلة الماضية فى برلمانات تركيا وتونس وإيطاليا وكردستان والأردن.. إلخ.
المُحصلة من كل ذلك أنه داخل البرلمانات أحيانا تنفلت الأعصاب، عندما يطرح النواب الكثير والكثير من المشكلات التى راعى الدستور أن رأى النواب وانفعالاتهم وقتئذ ربما تكون خارج السياق العام، فمَنَح الحصانة للنواب، وأَعطى لهم الحرية بالحديث، وعدم محاسبتهم أو حتى مجرد مؤاخذتهم على ما يقولون فى حينه.
وهذه الحصانة (من حيث الشكل) هى أمر طبيعى، لأن النائب يتحدث تحت قبة البرلمان، حصن الديمقراطية، وحرية الرأى والتعبير، وهو المؤسسة الكفيلة بالزود عن التداول السلمى للسلطة. وبالتالى، إذا كان النائب سيحاسب على أقواله وأفعاله تحت القبة، وهو يمارس مهامه التشريعية والرقابية، فماذا سيفعل الآخرون تجاه أقوال وتصرفات المواطنين العاديين فى الشارع.
أما رد الفعل على واقعة عبدالعليم داود فهو غريب من حيث الموضوع، لأن النائب ردد ما قالته تقارير المنظمات الأجنبية والمصرية التى تابعت العملية الانتخابية الأخيرة، بتصريح من الهيئة الوطنية للانتخابات، منذ فتح باب الترشيح وحتى الاقتراع مرورا بالحملات الانتخابية؛ حيث شهدت تسجيل مرشحين بعينهما رقما واحدا فى الترشيح وبالتالى رقما واحدا فى أوراق الاقتراع، وكذلك وجود رشى انتخابية. وفى موضوع الرشى تحديدا تسجل المنظمات أنها لم تكن فقط كما كانت فى الانتخابات الكثيرة التى تلت أحداث 25 يناير 2011، أى مقتصرة على توزيع المواد التموينية أو الأموال أمام اللجان، بل تجاوزت ذلك بالعودة لأساليب نظام مبارك بتوزيع الأموال على القائمين بإنزال أسماء المرشحين فى قوائم الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل.
الأمر المهم اليوم أن المراقبين البرلمانيين الذين كانوا يلومون النواب أو يدافعون عنهم بسبب إلقاء التهم وحتى الشتائم للحكومة والوزراء، باتوا اليوم فى موقف لا يُحسد عليه، فالمجنى عليه هنا ــ إذا جاز التعبير ــ ليست الحكومة أو أى مؤسسة رسمية، بل مؤسسة غير رسمية، وهى أحد الأحزاب، ومعلوم أنه هناك إجماع على اتهام النظام الحزبى فى مصر بالضعف الشديد والاهتراء، وعدم التفاعل مع الشارع. بعبارة أخرى، لقد تراجع سقف الحرية للنائب فبدلا من أن يلاحق لرأيه تجاه الحكومة، أصبح يلاحق لرأيه تجاه المؤسسات غير الرسمية فى الدولة.
ما سبق يشى ببداية غريبة للبرلمان تجاه حرية النواب فى إعمال إحدى وظائفهم وهى الرقابة على السلطة التنفيذية، بالطبع الرقابة لا تعنى السباب، لكن إلقاء الأوصاف والنقد الذى قد يكون شديد الوطأة، هو بلا شك أمر مباح للنواب تجاه الحكومة وهى مؤسسة رسمية، ومن باب أولى المؤسسات غير الرسمية.
ما حدث من ضيق صدر المجلس من النقد، يرتبط بأمر آخر، يجعل رد الفعل من تصرف «داود» سياسة وليس حدثا عرضيا. هنا يُقصد منع المجلس للمحررين البرلمانيين من ممارسة أعمالهم فى متابعة جلسات المجلس. وكان القرار بمنع هؤلاء قد طال نحو 80 محررا سبق لهم صدور تصريحات للتغطية الإعلامية داخل البرلمان، وهم من المنتمين ليس فقط للصحافة الحزبية والمستقلة، بل للصحف القومية أيضا.
كل ما سبق يجعل موقف المؤسسة الأولى فى مصر المكفول لها حق صيانة حرية الرأى والتعبير من هذا الحق محل تساؤل مشروع.