لغز الصليب الأبيض - حسام السكرى - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 10:26 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لغز الصليب الأبيض

نشر فى : السبت 21 أبريل 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : السبت 21 أبريل 2018 - 9:50 م

بالصدفة البحتة وقع في يدي هذا الكتاب. التقيت ناشر طبعته العربية جون مكارثي مع أصدقاء في مطعم هاديء في جنيف، فأهداني نسخة من Swiss Made أو "صنع في سويسرا" ممهورة بتوقيعه وإهداء رقيق بعربية صحيحة تعلمها في بيروت. مؤلف فاخر وغلاف مقوى وصفحات مصقولة. ابتسمت في قلق وأنا أتلقى هذا العمل "الثقيل" الذي يثير قلق أي مسافر عابر على وزن حقيبته.

تحول قلقي إلى استمتاع حقيقي وأنا اقلب صفحات الكتاب الذي يسرد فيه الاقتصادي جيمس برايدنج، فيما يقترب من الخمسمئة صفحة، قصة نجاح مدهش لسويسرا كدولة وكمجتمع بشكل لا تملك وأنت تقرأه إلا أن تعجب من أننا في عالمنا العربي لم ننتبه لهذا النموذج بالشكل الذي يستحقه.

كثيرا ما ننظر في النموذج الياباني، أو الأمريكي، أو الماليزي، أو التركي وكلها تجارب جديرة بالدراسة والاستلهام. ولكننا نادرا ما نتأمل النموذج السويسري الذي يكشف الكتاب عن معالمه بما يحيل تجربة القراءة إلى لحظة كشف جعلتني أدرك أننا أقرب مما كنت أظن لهذا البلد الذي نشعر به نائيا. الحقيبة التي خرجت من المطعم وأنا أحمل الكتاب فيها سويسرية تحمل تحمل الرمز المعروف الذی صار علامة على الجودة والدقة والمتانة: صليب أبيض على خلفية حمراء. ساعتي سويسرية. ماركات المياه، وأنواع القهوة والمشروبات التي أشربها ويشربها أغلب من أعرفهم سويسرية الأصل. الأجبان التي أحبها سويسرية. أنواع الشيكولاتة التي أقف مبهورا أمام مذاقها سويسرية. الألبان وأغذية الأطفال التي كنت أعطيها لأطفالي سويسرية. شركات الأدوية الكبرى سويسرية. المصعد الذي استقله كل يوم في منزلي سويسري. وهكذا..

أمثلة التفوق عديدة وفي قطاعات شديدة التنوع يتفوق فيها السويسريون دون ضجة أو دعاية ويقتربون منك دون أن تشعر بهم. كيف تمكن شعب جبلي بلغ من الفقر في القرون الوسطى أنه كان يرسل رجاله كمرتزقة في حروب شعوب أخرى، وأطفاله كعبيد في منازل أثرياء ألمانيا، أن يصبح نموذج النجاح الذي يدرسه الأوروبيون اليوم؟ كيف تحول البلد إلى بوتقة ابتكار خرجت منها ألبان الأطفال المصنعة وأغذيتهم، وساعات سواتش، وأقراص فيتامين سي المصنعة، وحبوب الفاليوم المهدئة، وتقنيات تشغيل الساعات بالاهتزاز، وحبيبات القهوة الفورية، وكبسولات النسبريسو، وسياحة الثلوج، ومعايير الريتز الفندقية، ومستخلصات الحساء والخضروات (ماجي وكنور) إضافة إلى ابتكارات وإنجازات أخرى يطول حصرها في مجالات المعمار والصناعات الطبية وغيرها.

تفوق ملغز وقائمة إنجازات طويلة لشعب لم تكن له ممتلكات استعمارية قط، ولم تسبق له المشاركة في أي حرب. لم يعرف حكومة مركزية قوية، ولم يظهر فيه قائد كاريزمي يمكن أن تنسب إليه عملية تحول راديكالية. كما لن تعثر في أي لحظة من لحظات تاريخه على فكرة "الخطة الاستراتيجية السويسرية الشاملة" التي قادت البلاد نحو الحداثة، ولا أي من النقلات المثيرة للإعجاب التي يتاجر بها الساسة وينسبها كل منهم لفريقه. بلد "مزنوق" لا توجد له منافذ بحرية من أي اتجاه ولا يتمتع بثروات طبيعية. جبال وثلوج ومزيد من الجبال والثلوج!

في الوقت ذاته لا يوجد بلد بحجم سويسرا التي يقترب عدد سكانها من ثلث تعداد مدينة القاهرة، تمكن من تحقيق هذا المستوى العالي من الدخل الفردي مع الحفاظ على توزيع عادل للمكافآت، إضافة إلى احتلال مركز الريادة في عدد من الصناعات رغم ضغوط العولمة. لا يوجد بلد متقدم نجح في تقليل الدين العام كما هو الحال في سويسرا. كما لا يوجد شعب يتمتع بهذا القدر من الحرية في التصويت على مختلف الأمور في بلدياته على النحو الذي يجري هناك.

قصص ممتعة يسردها الكتاب خلف نماذج النجاح السويسرية في مجالات السياحة، والبنوك، والصناعات الطبية، والأدوية والكيماويات، والفن والهندسة والمعمار، وتحليل عميق لدور الإبداع والريادة. إضافة لرصد عدد من العوامل التي ربما يعزى إليها هذا التفرد: التوازن القائم بين دول الحكومة والقطاع الخاص. هيكلة الاتحاد الكونفيدرالي والاستقلال الكبير الذي تحظى به "الكانتونات" بشكل يزيد على ما تتمتع به ولايات أمريكا أو مقاطعات كندا من استقلالية. حتى على مستوى البلديات يجري التصويت بين السكان على مختلف الأمور بما يجعل القرارات تتخذ على أدنى المستويات وأقربها للمواطن.

معادلة نجاح تستحق الدراسة والاستلهام حققها شعب صغير تتلخص ثروته في الديمقراطية، ونموذج إدارة يقلل سيطرة المركز، ويحرر الفرد، ويشجع الريادة، وينشر التسامح الديني والعرقي، ويدمج المهاجرين الذين يصل تعدادهم مع المواطنين من أصول غير سويسرية إلى ثلث السكان والذين كان للكثيرين منهم فضل التفوق والإبداع والمساهمة في نجاح البلد على مدى العصور.

لو كان الأمر بيدي لفرضت على كل مرشح رئاسي وبرلماني وعلى كل قيادي حزبي وناشط سياسي قراءة Swiss Made وكتابة صفحتين:
يجيب في الأولى عن سؤال: لماذا نجحوا؟
وفي الثانية عن سؤال: كيف سننجح نحن؟

التعليقات