حضرة عبده داغر - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 3:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حضرة عبده داغر

نشر فى : الثلاثاء 21 مايو 2019 - 10:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 21 مايو 2019 - 10:55 م

دخل عبده داغر مساء الاربعاء الماضى إلى خشبة مسرح معهد الموسيقى العربية بالقاهرة، وهو يستند على ابنه عازف التشيللو البارز خالد وظلت فى المشهد دلالة رمزية يصعب تفاديها، كما كان من الصعب تفادى الشعور بالوهن الذى أثقل كاهل العازف الذى يحمل تاريخ الموسيقى العربية بين أنامله.

قبل الدخول قرأت لصديق معلومات كثيرة عن العازف الاستثنائى الذى كرمته أوروبا وعاملته مصر بإهمال معتاد لكنه قاوم وتحول بيته إلى أكاديمية خاصة تفتح أبوابها لكل من يطرق الباب بحثا عن طريق.

وفى تلك الليلة توافد جمهور أغلبه من الأجانب وفنانين لديهم انشغالات مختلفة وكان كل من فى القاعة وعلى أبوابها على علم بالحالة المرضية الحرجة التى تعافى منها وقبلوا غيابه على مضض وكذلك تعاملوا مع عودته التى جاءت مغلفة بشحنة عاطفية صاغت كل مشاهد الحفل الذى تأجل لمرات وبصورة جعلت إقامته دائما فى مهب الشك.

وبفضل التصفيق الذى تواصل لعدة دقائق عاد داغر شابا من جديد وقطع المسافة من عمق المسرح لمقعده بثقة وما ان وصل إلى آلته حتى تغير كل شىء وتجلت فى القاعة الأنيقة بزخارفها الإسلامية الدقيقة همهمات قطعها نوع خاص من الصمت يصعب تفسيره لكنى أسميته «الصمت الترقبى» الذى بدأته الفرقة التى صرنا نعرف أسماء أعضائها الذين كانوا فى مقاعدهم مثل جنود فى وضع الاستعداد.

وحين أمسك عم عبده بـ«الكمان» أدركنا أنه انتصر وتمكن من سحب القوس بطريقته الفريدة وفى لحظة زهو لازمته طوال عمره وظل يتشكك فيها فهو الذى يتعامل مع الكمان بوجل المتردد ورعشة المؤمن عند كل صلاة.

شعور يحسه كل من يستمع إلى مقطوعاته بانتظام فما يقدمه داغر القادم من قلب الموسيقى الشعبية أكبر من العزف، إنه غناء الأصابع، وربما كان هو التسامى على جرح سرى قريب من ذلك الذى تحدث عنه جان جينيه وهو يتأمل أعمال النحات جياكومتى، أو هو بالضبط معنى الشجوية الذى اراده أمل دنقل حين كتب قصيدة شهيرة بهذا الاسم وفيها السؤال الفريد: «لماذا يتابعنى أينما صرت صوت الكمان؟».

فى مسيرته التى تجاوزت السبعين عاما مع الوتر تعامل داغر مع الكمان كمن يتعاطى مع قرين أو يرافق ظلا لا يراه سواه.

ومثل كل أسطى بلغ فى حرفته حد الابتكار والاضافة والتخييل أجاب بموسيقاه على سؤال الهوية المعلق فى رقاب الجميع، وتحول لصائغ ماهر، جوهراجى مشاعر يعرف موطن الدمع ومربط الأمل ويذهب للضفاف البعيدة فى أرواحنا ويهدهدها.

ومثل جياكومتى أيضا يلعب بكل الطراوة الساذجة للشىء، هو ولا شىء آخر معه، ففى لحظة العزف يبقى هو فى عزلته الكاملة يؤطر لحظته بإيقاعه الخاص الذى يجعل لأنامله وجودا، ولوجهه تاريخا خالدا. ففى الموسيقى الشرقية يكون الارتجال هو باب المهارة وفضاء التجلى الذى مارسه داغر بتقشف وانضباط يندر تكراره لأنه يعى فكرة البناء وقيمة الزمن التى تحكم الموسيقى وبالتالى فلا مجال معها للهدر أو فوضى الخروج.

ولعل الشىء الاجمل فى حفلات عبده داغر وربما هو أجمل من الموسيقى ذاتها متعلق بتلك الأبوة التى تحتوى وجوده مع العازفين الصغار الذين يحيطون به ويبقون فى مداره، فعلى قدر الانضباط الذى يتميزون به والكفاءة التى ترفع قدرهم أمام الاخرين تظل نظراتهم له خلال العزف هى المقطوعة الأجمل المصاغة بشعرية الامتنان، هى اللحظة الصوفية التى تنجلى فيها المسافة بين القطب والمريد، إنها أوان جنى المحصول والحصول على نظرة الرضا أو شارة اللوم والغضب، لحظة لا يدركها الا من يعرفون الطريق إلى تلك الحضرة الذكية.