الانقلاب الذى قام به المجلس العسكرى فى مصر بواسطة «الاعلان الدستورى المكمل»، بعد حل البرلمان ومصادرته سلطات التشريع والنقض، نبه إلى محورية المسألة الدستورية فى جدل المحافظة والتغيير الجارية فى المنطقة.
●●●
ثمة أجيال من العرب، ومن المعارضين، عاشت فى ظل الاعتباط الاستبدادى فتعودت النظر إلى الدساتير وما تحويه من حقوق وواجبات وحريات على انها من قبيل الحبر على الورق، وانه من السذاجة أو العبث اللجوء اليها والاستنجاد باحكامها. الآن وقد جد الجد، نكتشف ان الحكام قد حاكوا بعناية دساتير على مقاسهم، والأهم ان التسلح بالدستور والتلاعب به هو، منذ اندلاع الثورات، جزء اساسى من الوسائل التى تلجأ اليها قوى الامر الواقع، الداخلية والخارجية، للحفاظ على مواقعها فى السلطة والتحكم بها لحماية مصالحها.
يجب الاعتراف بأن الثوار أدركوا مبكرا أهمية المراحل الانتقالية وموقع الدساتير منها. وبينما المعارضات الرسمية تفاوض على حصة فى الحكم، كان شباب الثورة (وبعض شيبها، امثال محمد البرادعى فى مصر، مثلا) يرسمون خرائط طريق لتفكيك الانظمة الاستبدادية والانتقال إلى اشكال من دولة القانون والديمقراطية. ومن نقاط الاستدلال على ذلك الطريق: عقد مؤتمر تأسيسى، تسليم السلطة للمدنيين، صياغة دستور جديد ديمقراطى يحوى ضمانات للحريات الاساسية، وبعد كل هذا يتم الانتقال إلى الانتخابات. ناورت قوى النظام والردة الداخلية والخارجية فى الاتجاه المعاكس تماما: تنحى الرئيس لنائبه (افشلها الثوار فى مصر)، تشكيل حكومات جديدة (بمشاركة قوى من المعارضة التقليدية)، صياغة دستور مؤقت وجزئى (فى مصر)، انتخابات نيابية ورئاسية، يليها البحث فى الجمعية التأسيسية والصياغة الدستورية... الخ.
باختصار: إنقاذ النظام فى اساسياته، ثم البحث فى تعديله وتغييره.
فى سوريا، فرضت «الاصلاحات» لتجديد النظام بالتوازى مع القتل، وجرى تتويجها بدستور عزز من الصلاحيات المطلقة لرئيس الدولة بدلا من ان يعدل منها، وتولى هذا بدوره تعيين المحكمة الدستورية، بما يضمن تحكمه بالقضاء وبالدستور معا. ثم جاءت الانتخابات. ولم يحن بعد وقت الحوار، والقتل مستمر.
فى اليمن، طبقت خطة تنحى الرئيس، تلاها تشكيل حكومة شاركت فيها قوى المعارضة التقليدية، قبل ان يعتلى «النائب» المقعد الرئاسى فى انتخابات مبايعة، ولما يزل البلد ينتظر الحوار الوطنى بين القوى المتنازعة وصياغة دستور جديد وقوانين انتخابية، وما إليها.
●●●
حقيقة الامر ان الدساتير تثير اسئلة حرجة تستفز المعارضين والثوار، على حد سواء، وحرى بها ان تحفزهم على صياغة رؤاهم الشاملة بما يتجاوز الطابع السياسى العسكرى الغالب على الفكر المعارض، ناهيك بالممارسة. المطلوب رؤى تحيط بمشاكل البلاد تقدَم لها مشاريع لا لبناء انظمة سياسية حقوقية وحسب، بل لبناء اوطان جديدة. والدساتير هى فى نهاية المطاف التجسيد لتلك المشاريع والتوثيق لتعاقد جديد بين حكام ومحكومين من اجل تنفيذها.
لا شك فى ان ما تحويه الدساتير يحكمه توازن القوى السائد أو المستولد بين قوى التغيير وقوى الحفاظ على الوضع القائم، أو قوى الردة على الثورة. ومغزى القول ان قوى الثورة فوتت الكثير عليها لأنها لم تلجأ إلى المؤتمرات التأسيسية والى صياغة الدساتير الجديدة بينما هى فى أوج قوتها والنظام فى أضعف حالاته. أو فلنقل عكسا: ان قلب المعادلات الذى فرضته قوى الامر الواقع، والقوى الخارجية الداعمة، بات يفرض على قوى الثورة العودة إلى نقطة البداية. وليست مصادفة ان تعود المليونيات إلى ساحات الحرية والتغيير فى مصر للرد على اصدار المجلس العسكرى «الاعلان الدستورى المكمل».
ليس غريبا ان تكون الدساتير موضع نزاع، فى هذه المراحل الانتقالية بكل متعلقاتها من توقيت وهيئات صياغة ونصوص. ولقد نبهت التجربة إلى عدد من القضايا موضع نزاع تقع فى صميم الهموم التغييرية وعمليات الانتقال.
●●●
موقع الشريعة من الدستور هو اولى المسائل. يجرى توريتها تحت عنوان «الدولة المدنية» الذى تطرحه بعض القوى الإسلامية ويتواطأ معها ليبراليون وديمقراطيون ويساريون وتقدميون للتفلت من الجهر ب«العلمانية». بعلمانية أو من دونها، لا يمكن تجريد مصطلح «المدنية» من دلالتين من دلالاته. الأولى، هى حصر سلطة التشريع بالهيئات المنتخبة من الشعب، وخضوع القوات المسلحة واجهزة الأمن لمؤسسات السلطات المدنية. فى الحالة الثانية، يصطدم شعار «المدنية» بالركائز العسكرية للسلطة فى غير بلد عربى، ومصر فى المقدمة. ويرتطم فى الأولى بالحركات الاسلامية التى تريد تنصيب هيئات معينة غير صادرة عن الانتخاب الشعبى فوق الهيئات المنتخبة للبت فى مواءمة التشريع مع الشريعة.
من جهة أخرى، يبدو انه لم يعد بد للدساتير من ان تتعرض لمسألة هوية البلد والاعتراف بمكوناته جنبا إلى جنب مع توكيدها على المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين. ها هو الدستور المغربى يعترف، تحت ضغط الشارع، بالانتماءات المتعددة للمغرب وبمكونات شعبه المختلفة. وهى سابقة فى الدساتير العربية خلال حقبة الثورات. سيجر الاعتراف بتعدد المكونات جملة من المسائل، ليست اقل منها شأنا ولا هى محصورة بالمغرب. نقصد الاعتراف بلغات اخرى إلى جانب اللغة الوطنية (الكردية، الامازيغية... الخ)، أو بالتساوى معها، أو البت بتسمية الكيان أو البلد (جمهورية عربية سورية ام جمهورية سورية؟) أو بملامح ومعالم العلم الوطنى (السجال الذى لم يحسم حول العلم العراقى، العلم الليبى الجديد، ارتفاع علم للمعارضة إلى جانب علم النظام فى سوريا... الخ).
ثم ان موضوع تعيين الاعداء الوطنيين فى الدساتير حرى به ان يلفت الانظار هو ايضا. ليس تفصيلا، فى هذه المراحل الانتقالية، انْ يرد أو لا يرد فى الدستور التونسى أو المغربى أو الليبى، مثلا، نص يؤكد ان اسرائيل دولة عدو. ففى ذلك الحد الادنى من موجبات الانتماء إلى المنطقة تكمن ايضا الحدود الدنيا من المسؤولية تجاه الشعب الفلسطينى والنزاع العربى الاسرائيلى. ومعلوم انه وردت على ألسنة مسؤولين فى حركات معارضة اسلامية، وغير اسلامية، تصريحات مبكرة تتعلق بإسقاط الاشارة الدستورية إلى اسرائيل. وفى المعنى ذاته، هل يعقل ان لا يرد فى دستور سوريا الجديد اشارة إلى احتلال اسرائيل الجولان، وتمسك الشعب السورى بحقه فى تحريره؟
أخيرا وليس آخرا، المسألة الاقتصادية الاجتماعية. ان اغفال المعارضات مسائل البطالة والفقر وتنامى الفوارق الطبقية واستشراء الفساد والغلاء وتدهور اوضاع الأرياف والقطاعات الإنتاجية، لا يفقدها الصلة والمصداقية تجاه القوى الحية التى اطلقت الثورات اصلا ومصالحها وتطلعاتها إلى التغيير. انه يفسح فى المجال واسعا امام قوى الامر الواقع والردة كى ترمى على عاتق الثورة والثوار عدم الاستقرار والمصاعب الاقتصادية والتردى الاجتماعى والأمنى، وتجيير كل ذلك لتغليب اولوية الامن، ونشر الفزاعات ضد أى تغيير، حتى لا نقول زرع الحنين إلى عهود الاستبداد السابقة. من هنا، فإن تكريس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى الدساتير موضع صراع محتدم أصلا، خصوصا بين من يريد تكريس دور الدولة فى خدمة الأسواق ورأس المال المتعولم ومن يسعى لدولة تكون أداة تنمية وتوزيع عادل للموارد والثروات والخدمات.
●●●
ولا مبالغة فى القول إن سجل نجاحات الثورات سوف يقرأ فى سطور دساتيرها، من الآن فصاعدا.