عَـــوِج - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:19 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عَـــوِج

نشر فى : الجمعة 21 يوليه 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 21 يوليه 2023 - 8:30 م

بالقُرب من مَلاعِب الأطفال، انطلقت بنتٌ صغيرةٌ تقفز بين أرجوحةٍ وأخرى، وتنادي صاحبَها كي يشتركا سويًا فيحركا طرفيّ الميزان. صاحت بالإنجليزية تُحمّسه للحاقِ بها، وسألته أن يساعدَها باللغة نفسِها، ثم أتت الأم بعدما طلبت من العاملةِ مقعدًا إضافيًّا: "كرسي كمان يا حيبيتي"، وحذَّرت البنتَ من السقوط مُستخدِمَة نِصفَ عربيَّة ونِصفَ إنجليزيَّة، وأخبرتها أن الزلابيا ستجيء بعدَ قليل.
• • •
عَوَّج لسانَه أيّ اصطنع لكنةً ليست له، والحقُّ أن كثيرَنا صار يلفظُ الكلماتِ مُعوَّجةً مَكسورة، مُتصورًا أن في نُطقِه هذا أناقةً، وأن مكانتَه سترتفع حين يُعلن على الناس أنه عاجزٌ عن التحدُّث بلغته الأم، وأن اللغةَ الأجنبيةَ أقربُ إليه وأحب، والحقُّ أن اللغةَ العربيَّة لم تعد ذات قيمة، وبات تعويجُ اللسانِ من أماراتِ الوجاهةِ الاجتماعية؛ يتباهى به كثيرون، بل ويحضّون أطفالهم عليه.
• • •
يأتي الفعلُ عَوِج في قواميس اللغة العربية بمعنى مال، الموصوفُ أعوَجٌ والمؤنث منه عَوجَاء، والمصدر عوًجًا بكسر العين أو فتحها، أما عَوَّجَ ففعل مُتعد، فاعله مُعوِّج بتشديد الواو وكسرها والمفعول به مُعوَّج بتشديد الواو وفتحها، وإذا قيل عوَّجه عن الطريق؛ فالمعنى أنه صرفَه عنه، وتُوصَف الأرضُ بأنها مُعوَّجة إذا حوت مُرتفعاٍت ومُنخفضَات، ولم تتمتَّع باستواءٍ أو انبساط.

• • •
يقول المثلُ الشعبيّ: امشِ عدل يَحار عدوُّك فيك، والمراد أن المَسلكَ الُمستقيم يجعل الإنسانَ قويًا، يصعبُ الإيقاع به أو إيجاد ثغرةٍ تسهل الضغطَ عليه. ربما لم يعد المثلُ مُنطبِقًا على الواقع إلى حدٍ بعيد؛ فالمشي في مُنحنياتٍ وانحرافاتٍ بات أجدى وأوفَر، كما أصبح الاعوجاجُ أقصرَ طريق.

• • •

كلَّما أراد رجُلٌ إغاظة امرأةٍ؛ ذكر مُتخابثًا أنها مَخلوقةً مِن ضلع أعوَج، والمَجاز يَرمي إلى ذمِّ مَسلكِها دون تحمُّل ذنبِ المَذمَّة، والحقيقةُ أن الضلوعَ جميعَها فيها درجة من الاعوِجَاج؛ تلك طبيعتُها التي صِيغَت عليها، فإن تبدَّلت؛ عجزَت عن أداءِ وظيفتِها وصَون أعضاءِ الجَّسد الواقعة في حمايتها.

• • •
التعبيراتُ الدالةُ على الغَضب أو الضيق كثيرةٌ، والإيماءاتُ التي يَقوم بها الغاضبُ مُتباينة، فإذا أراد الواحد أن يُعلنَ عن عدمِ رضاءِه؛ عَوَّج بوزَه، والبوز في معاجمِ اللغةِ العربيَّة هو الفم وما حوله، أما تعويجُه فعلامةٌ تحلُّ مَحلَّ الكلام، وتؤدي الغرضَ دون التورُّط في اشتباكٍ لفظي.

• • •

ربَّ مَوقف يدعو المرءَ إلى عصيانِ بعض الأوامرِ والقواعِد، وأن يتمسَّك برأيه مُعاندًا، فإن استثار بمسلكِه الآخرين؛ وَصفوه بأنه سايق العَوَج. التعبير مَجازٌ لطيف؛ فاستخدام الفعل سَاقَ يُوحي بالتمَكُّن، وإذا تمَكَّن الشخصُ من أداتِه حقَّق ما يريد، وتحوَّل العِوَجُ إلى وسيلةِ إنجازٍ لا تعطيل.

• • •

يُعدُّ اعوجاجُ العمود الفَقَريّ من العيوبِ التي يُعانيها نفر من الناسِ دون اكتشافِها منذ البداية. ربما يكون الأمرُ طفيفًا غير مَلحوظ؛ لكنه يتسبَّب لاحقًا في آلام مُزعجة لا تختفي، خاصة إذا اقتضت طبيعةُ المِهنة أن يَمكثَ صاحبُها في أوضاعٍ مُعينةٍ لفتراتٍ طويلة. عادة ما تأتي النصيحةُ بتدريباتٍ يؤديها ويواظبُ عليها، والحقُّ أن الالتزامَ صعبٌ عسير؛ لكن الوَجعَ قد يُصبح حاكمًا.

• • •

بعضُ الأشياء ما أصابها الاعوجاجُ؛ كانت محاولةُ إعادتِها لأصلِها عسيرةً. العظامُ التي تتعرَّض لكسورٍ ثم تلتئمُ مُعوَّجةً؛ قد تحتاج إلى إعادة الكَّسر أولًا، ثم التثبيت على الوَضع السليم. تختلفُ الحالُ بالنسبة للخصالِ والصفاتِ الأصيلةِ في البشر، ففيهم المفطورون على طبائع مُعوَّجة يَصعب تقويمُها؛ ما لم يتعرَّضوا لخُطبٍ عنيفٍ، يتكفَّل بأمورِ الكسرِ والتشذيبِ ثم الجَّبر.
• • •

كان الناسُ في الزَّمن القديم يعدون غطاءَ الرأسِ مِن جميلِ الأدب. الطاقيةُ أدبٌ والقُّبعةُ أدبٌ والطربوش كذلك؛ فإذا حرَّك المُتأدبُ هذا أو ذاك بطريقة معيَّنة أو عَوَّج تلك؛ كانت في فعلِه رسالة. عِوَجُ الطربوش يحملُ شيئًا من التدلُّلِ والثقةِ بالنفس، ورَفع القُّبعةِ وخفضُها بمقامِ إلقاء التحيَّة، أما عن الطاقية فقد احتفى بها الفولكلور وخلَّدها سيد درويش في المقطع الشهير: عوج الطاقية وقال لي غني لي غنيوة؛ فكانت المُغازلةُ خفيفةُ الروح والوقع.

• • •

كثيرًا ما يتلقّى صاحبُ الخِطابِ المُستفِز نصيبَه من الزَّجر والاستياء، بل ربما يجد من يرفضُ الإنصاتَ لمُحتواه، ولا تلبث العبارةُ الشهيرة: قف عَوِج وتكلم عدل، أن تقفزَ في حينها إلى اللسان؛ لتؤكدَ أن ما يُهمّ في المقام الأول هو مَضمون الكلام؛ أما الهيئةُ فلن تغيّرَ من الأمر شيئًا، سواءً تثنّى المرءُ أو تَعَوَّجَّ أو شبَّ على أطرافِ أصابعه.

• • •

يُشار إلى السُّلوك المُشين بأنه مشيٌ أعوَج، أما الإنسان الأعوَج فهو سَيّءُ الخُلُق، وبالمثل تكون الطريقُ العَوجاءُ؛ إذ تُهلِك السائر فيها، وتقوده إلى ما لا رجُوع عنه ولا عَودة منه.
• • •
حين يُماطل الواحد ويلجأ للحيلةِ والالتفاف، مُبتعدًا عن السبل المباشرة؛ يُقال إن كلامه مُعوَّج، والكلام المُعوَّج مُرهقٌ للأطرافِ كافة سَخيف، يُرغِم سامعَه على مُراجعة المعنى بحذرٍ وحِرص مُحاولًا قراءةِ ما بين السُّطور، وفي الوقت ذاته يكتسِبُ قائلُه سِماتٍ سلبيةٍ عديدة والعكس صحيح؛ فمديح عظيمٌ أن يُعرفَ المرءُ بكلمته الأمينة الواضحة التي لا تتلوَّن ولا تميل، ولقد سمعنا من الكلماتِ العوجاءِ خطبًا طوالًا على مرّ الأعوامِ، وتليت على مَسامِعِنا الأشعار والمُعلقات؛ فما رأينا منها ذات يوم خيرًا، ولا أدركنا بينها حسنَ المَقال.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات