موجة إرهابية جديدة من الاعتداء على مؤسسات الدولة المصرية من أقسام الشرطة، والمحاكم، والمؤسسات الحكومية، وقوات الأمن والجيش والكنائس والأديرة، استغرب من يصر على إنكارها، أو نسج الأكاذيب حولها، وبعضها ساذج لا ينبغى التوقف أمامه.
اللحظة الراهنة قاسية، ولكن الإفاقة منها ضرورة، لأننا سبق أن غرقنا فى رمالها المتحركة دون أن نتقدم خطوة على طريق بناء دولة ديمقراطية تنموية. رحل نظام مبارك، وظل المجتمع مشغولا به منقسما بين «فلول» و«ثوار»، وسط تصاعد نبرة عدائية تريد إقصاء كل من له علاقة به، وكلما وقعت جريمة أو حدثت أزمة شكل الطرف الثالث «شماعة» جاهزة لتعليق الأسباب عليها. فى البداية كان بقايا «نظام مبارك» أو ما أطلق عليه «الدولة العميقة»، ثم لاحقا تحول إلى الإخوان المسلمين، قبل أن ينقله محمد البلتاجى من منصة «رابعة العدوية» إلى وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسى والمخابرات الحربية، وهو ما يمثل قمة تراجيديا العبث فى هدم الدولة.
نظام مرسى سقط لأنه لم ينجز، واليوم الحرب ضد الإرهاب، رغم عدالتها ليست بديلا عن الانجاز السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى ينتظره المصريون. هناك «خارطة طريق» وضعت، وخطوات نسير عليها، وهو أمر لم يكن قائما عقب رحيل نظام مبارك. التفكير المستقبلى يفترض ممارسة النقد، والتعلم من الخبرات السابقة، والنظر إلى «الصورة العامة» التى تغيب أحيانا وسط ركام التفاصيل المؤلمة التى يحملها المشهد السياسى. هنا يأتى دور «الأصوات النقدية» فى إعادة بوصلة النقاش إلى وضعها الصحيح، تعيد قراءة عامين ونصف شهد ألوانا من الصراع والعبث، وإهدار الفرص فى بناء الدولة الحديثة، وإدارة سياسية رديئة لنظام محمد مرسى جعلت الدولة فى خدمة الجماعة، وحلفائها.
فى رأيى ينبغى التوقف أمام ثلاثة دروس أساسية تمخضت عن التجربة السابقة، وما قبل السابقة.
الدرس الأول: هناك عقبتان فى طريق بناء الدولة التنموية الديمقراطية فى الخبرة المصرية، قد لا نجدهما معا فى خبرات دول أخرى، الأولى «التداخل بين المال والسياسة»، والثانية «الخلط بين الدين والسياسة»، مواجهة كليهما يحتاج إلى إطار دستورى، وقوانين رادعة، وسياسات حاسمة تمنع استغلال السياسة فى قهر «العدالة الاجتماعية» أو توظيف الدين فى الصراع السياسى. إذا لم يتحقق الحسم الدستورى والقانونى السياسى لا يوجد ضمان لعدم انزلاق المجتمع فى ذات المشكلات.
الدرس الثانى: هناك «خلل» فى الثقافة السياسية السائدة يطول كل الأطراف. لن تبنى ديمقراطية أو تنمية فى ظل الاستقطاب السياسى، واللجوء المفرط إلى العنف اللفظى والبدنى، والاعتداء على مؤسسات الدولة، وتفشى روح الإقصاء، والتعصب الدينى، والاعتماد على الغريزة وليس العقل فى إدارة السياسات العامة. يتطلب ذلك برامج طويلة الأمد للتربية المدنية، ومواثيق شرف إعلامية، وتكثيف العمل الأهلى، وتمكين الفقه المصرى الرحب الذى يصالح بين الفكر الدينى والمدنية.
الدرس الثالث: الدولة ينبغى أن تظل قائمة وقوية. الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية ومواجهة الإرهاب لا تتحقق إلا من خلال مؤسسات دولة قوية، لا يؤرقها «النزاع على ملكيتها» مثلما حاول الإخوان المسلمون، ولا أن تفقد حيادها السياسى مثلما حدث للبعض منها فى ظل نظام مبارك.
تجاوز التجارب الأليمة يكون بالتعلم من الخبرات، وكفى.