صدر منذ أيام تقرير «موديز» لخدمة المستثمرين بخصوص التصنيف الائتمانى السيادى لمصر. وكالة «موديز» للتصنيف الائتمانى وهى تبقى على تصنيف مصر الائتمانى عند B3 ونظرة مستقبلية مستقرة تؤكد فى تقريرها أن ذلك التصنيف يعكس بصورة مناسبة مخاطر الائتمان الخاصة بمصر. «الضعف الشديد» للوضع المالى للحكومة المصرية (وفق تعبير موديز) سيظل مقوضا لتحسن التصنيف الائتمانى للبلاد، انتظارا لمزيد من وضوح الرؤية حول استدامة وفعالية برنامج الإصلاح الاقتصادى.
يؤكد التقرير على أن تحسن احتياطى النقد الأجنبى لمصر خلال العام المنصرم كان مشفوعا بتدفقات من الديون debtــcreating inflows بما تسبب فى ارتفاع ملحوظ فى الدين الخارجى بالعملة الأجنبية. كنت قد كتبت مقالا حول دلالات احتياطى النقد الأجنبى نشر فى جريدة مصرية منذ أيام جاء فيه: «وإذ بلغ احتياطى النقد الأجنبى فى البنك المركزى المصرى 36.04 مليار دولار فى يوليو الماضى، فإنه بذلك يكفى احتياجات ثمانية أشهر من الواردات (كان بالكاد يكفى احتياجات ثلاثة أشهر فى 2012)! ومن المعلوم أن كفاية الاحتياطى الأجنبى لاحتياجات الدولة من الواردات لما بين ثلاثة وستة أشهر يعد مقبولا. لكن من المهم الإشارة إلى مؤشر آخر لكفاية الاحتياطى خاصة فى الحالة المصرية ما بعد التعويم، لأن المصدر الأهم للضغط على الاحتياطى الأجنبى حاليا أصبح الوفاء بالالتزامات الخارجية، وفى مقدمتها فوائد وأقساط الديون الخارجية، ولم يعد توفير الدولار لاحتياجات الاستيراد كما سلفت الإشارة. المؤشر الآخر المهم لكفاية الاحتياطى هو تغطيته لمدفوعات الدين الخارجى وعجز ميزان التجارة لمدة 12 شهرا قادمة. هنا تجدر الإشارة إلى أن البنك المركزى قد أعلن أخيرا وصول الدين الخارجى إلى ما قيمته 73.9 مليار دولار فى مارس الماضى تعادل نحو 41.2% من الناتج المحلى الإجمالى. كما يعتزم البنك المركزى المصرى سداد مديونيات قصيرة الأجل، بقيمة 8.4 مليار دولار، خلال 6 أشهر، بدأت من يوليو الحالى وتمتد حتى مطلع يناير المقبل. كذلك بلغ عجز ميزان التجارة السنوى نحو 29 مليار دولار انخفاضا من نحو 40 مليارا فى العام السابق. كما كان لى مقال فى الشروق عن خداع الفائض فى ميزان المدفوعات، أدعو القارئ الكريم إلى مطالعته لاستكمال الصورة.
***
وبينما يؤكد تقرير «موديز» على مضى برنامج الإصلاح بصورة «مبهرة» (فى إشارة إلى التزام الحكومة بكل مخططات رفع الدعم وتحريك الأسعار فضلا عن التزام البنك المركزى بتحرير سعر الصرف) يشير إلى كون هذا التصنيف الائتمانى يعكس حالة الصعود والهبوط فى حدة المخاطر التى تكتنف خطوات الإصلاح والأداء العام، على المستويين الاقتصادى والسياسى. تتوقع موديز أن برنامج الإصلاح الاقتصادى قد يواجه شيئا من التعثر، وأن الاستقرار السياسى النسبى قد تعترضه رياح الانتخابات الرئاسية المقبلة وغيرها من تقلبات. لكن أهم ما جاء بتقرير وكالة التصنيف العالمية هو تصاعد حالة التشكيك فى قدرة الحكومة وبرنامج الإصلاح الاقتصادى على تحسين الجدارة الائتمانية للديون السيادية فى ظل ما تقدم من سياق.
«موديز» تتوقع أيضا أن يظل ملف الدين العام المصرى متأثرا بشدة ولفترة طويلة بالأداء التمويلى الحكومى الضعيف للغاية very weak government finances مع استمرار تنامى عجز الموازنة العامة بالقيمة المطلقة الاسمية، وتراجعه فقط وببطء كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى.
الجدارة المالية للحكومة المصرية سوف تظل ضعيفة للغاية فى المستقبل القريب، بمعدلات وأحجام للدين العام تفوق بهامش معتبر أوسط الدول الحاصلة على تصنيف B3 لديونها السيادية. وعلى الرغم من توقع موديز انخفاض الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى من 100% فى عام 2017 (اقتربت حاليا من 135%) إلى نحو 90% بحلول عام 2019 (وهى نظرة متفائلة) إلا إن وكالة التصنيف مازالت ترى أن هذا المستوى مرتفع للغاية.
ويشير التقرير إلى أنه على الرغم من القرارات الانكماشية للسلطة النقدية، والتى أسفرت عن رفع أسعار الفائدة بـ 700 نقطة أساس منذ قرار التعويم فى محاولة لاحتواء الآثار التضخمية، وبما تسبب فى رفع العائد على أذون الخزانة لمدة عام لما فوق 20% كما تسبب فى زيادة عجز الموازنة العامة متأثرة بارتفاع مصروفات خدمة الدين العام، فإن «موديز» تتوقع أن تستمر مدفوعات خدمة الدين كبيرة خلال العامين أو الثلاثة أعوام القادمين بما يصل إلى نحو 40% من الإيرادات العامة سنويا.
ثم تؤكد «موديز» فى تقريرها على ملامح استقرار الاقتصاد الكلى بصفة عامة، على الرغم من صدمات التضخم الناتجة عن قرار تحرير سعر الصرف نوفمبر الماضى، وأبرز تلك الملامح توقع موديز نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى لمصر بنحو 4% فى العام المالى المنتهى فى يونيو 2017، واستمرار هذا المعدل فى التحسن خلال الأعوام المقبلة.
تعزى «موديز» هذا التحسن والاستقرار النسبى إلى توافر السيولة الخارجية، واختفاء السوق الموازية للدولار، وتوفير النقد الأجنبى اللازم لأغراض تحويل الأرباح، وتلبية طلبات الاستيراد.. مع التأكيد على أن ارتفاع احتياطى النقد الاجنبى الرسمى إلى 36 مليار دولار مدفوع أساسا بتدفقات الديون الخارجية كما سبقت الإشارة، وهو ما تسبب فى مضاعفة الدين الحكومى الخارجى خلال عام واحد! وقد سبق أن أكدت على أن ما يقلقنى فيما يخص الدين الخارجى ليس مستواه ولا قيمته المطلقة أو حتى نسبته إلى الناتج الإجمالى، بقدر ما يقلقنى معدل زيادة هذا الدين.
***
فيما يتعلق بالنظرة المستقبلية المستقرة، فقد أرجعت الوكالة هذا التصنيف إلى توازن الفرص والمخاطر التى تعترض خطوات الإصلاح الاقتصادى فى مصر خلال الفترة المقبلة. «موديز» تراهن فى رؤيتها للعوامل الإيجابية المستقبلية على استمرار خطوات الإصلاح الاقتصادى على ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولى، لما يتضمنه ذلك من تحسين بيئة الأعمال، وزيادة تدفق الاستثمار، وتحسن السياحة مع عدم وجود اضطرابات واحتجاجات ناتجة عن التضخم الكبير الذى أصاب البلاد. لكنها تزن تلك النظرة المتفائلة بنظرة أخرى لمخاطر سلبية، متصلة بدرجة من عدم اليقين المحيط بالانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها فى مايو 2018، ومدى التزام الحكومة المصرية بتعهدات البرنامج الإصلاحى تحت ضغط متصاعد من الشعب النامى بمعدلات مرتفعة، ومستويات الفقر والبطالة التى قد تسفر كلها فى النهاية عن تباطؤ خطى الإصلاح، أو ربما انتكاسته، عن طريق فرض دعم جديد أو تشغيل المزيد من العاملين فى الجهاز الإدارى للدولة.
ترى «موديز» أن الإصلاح المالى الأبرز فى جانب الإيرادات العامة كان فرض ضريبة القيمة المضافة، مع تعهد الحكومة بتحسين كفاءة التحصيل للإيرادات الحكومية عامة. بينما ترى تخفيض دعم المحروقات كأبرز خطوات الإصلاح المالى لجانب المصروفات، والذى يبقى مهددا بارتفاع الدعم الموجه للطاقة والغذاء وسائر بنود المصروف على شبكة الأمان الاجتماعى حال تعرض منتجات الطاقة والغذاء لصدمات تضخمية، وهنا تشير وكالة التصنيف إلى أن الحكومة المصرية تعتزم التحول التدريجى إلى نظام السوق فى تسعير الوقود.
***
تتوقع «موديز» ضعف احتمال نشوب انتفاضة شعبية جديدة فى مصر، لكن الأثر المتوقع على الاقتصاد المصرى والاقتدار المالى الحكومى لدى تحقق هذا النوع من المخاطر (ضعيفة الاحتمال) يظل مرتفعا للغاية. ولذا فالمحصلة النهائية لهذا المزيج من الاحتمال الضعيف، والأثر القوى لدى التحقق هو مخاطر متوسطة. وبصفة عامة ترى مؤسسة التصنيف الائتمانى موديز أن هناك حاجة إلى مزيد من الوقت لتقييم برنامج الإصلاح الاقتصادى الهيكلى، وأثرها على الاقتصاد والاقتدار المالى لمصر.
التقرير الذى أتوقع أن يجتزأ ليعكس حالة من التفاؤل المفرط فى قنوات التطبيل، وحالة من السواد المطبق فى قنوات النحيب، جاء موضوعيا متوازنا. بصفة عامة هذا النوع من وكالات التصنيف ليس فوق مستوى الشبهات (والدليل حالات التورط فى خلق أزمات عالمية). حرص تلك الوكالات على استمرار إصدار الأوراق المالية وانتعاش حركة الأسواق أكبر من حرصها على الاستقرار المالى والاقتصادى العام للدولة. مع ذلك فاستدامة الوضع الذى ينعم فيه المستثمر بتوفير احتياجاته من النقد الأجنبى بسهولة، بينما تضرب البلاد صدمات عنيفة من التضخم وارتفاع الدين العام إلى مستويات قياسية، هو أمر شبه مستحيل. على صانع القرار أن ينتبه إذن إلى نواقيس الخطر فى التقرير، والمتمثلة فى ضعف مؤشرات الاقتدار المالى للحكومة المصرية، ومحدودية الآثار الإيجابية لبرنامج الإصلاح على أوضاع المواطنين، على الرغم من قسوته والتزام الحكومة بجدوله، فضلا عن تصاعد مخاطر الاستقرار الاقتصادى ومن ثم السياسى، والنكوص عن الإصلاح فى ظل مناخ عام يعانى أصحابه التضخم والبطالة والفقر.
ملحوظة: التقرير لا يحفل بقانون استثمار ولا يعده إصلاحا.