بعد ساعة من اعلان خبر وفاة الفنان الكبير ناجى شاكر وضع صديقى المصور الفوتوغرافى البارز عماد عبدالهادى صورة التقطها لناجى فى مساء شتوى أظهرته مثل أى حكيم.
بقيت أتأمل الصورة واكتشفت معها كيف ان ناجى كان حكيما بالفعل، وأظن أنه الوحيد بعد حسين بيكار الذى امتلك طاقة احتضان الأجيال ورعايتها على هذا النحو الحافل بحنو الابوة وليس استبداد الأبوية.
ليلة غيابه تحولت صفحات التواصل الاجتماعى لجدارية كبرى حملت مرثيات تشييعه من تلاميذ واصدقاء فى الآفاق التى ساهم فى كشفها.
وفى ساعة واحدة اكشتفنا الكثير من أدواره وصفاته الشخصية كأنه لم يكن بيننا أبدا، رغم أن هذه الصفات تضعه، ليس فقط فى خانة الفنان الرائد، وإنما أيضا فى مكانة «المعلم».
ولى معه تجربة لا يمكن نسيانها، فقبل ثلاثة أعوام كنت أحرر صحيفة ثقافية ووضعت عملا من تصميمه على رأس الصفحة الأخيرة على سبيل التقدير لفنه وكان فى الأصل غلافا من الأغلفة التى قدمها لمجلة صباح الخير فى الستينيات. واستيقظت فى صباح اليوم التالى على صوته يوجه لُى الدعوة لزيارته قائلا: (ما يصحش تكرمنى وأنا لا.. تعالى لى اشوفك)...
هكذا ببساطة وجدت نفسى فى مكتبه، مغارة على بابا التى كانت متاهة لا ينتهى فيها السحر ابدا. وغرقت بين الصور والتصميمات والعرائس والملابس وقطع الحلى التى صممها إلى جانب اسكتشات اللوحات التى رسمها فى صباح الخير و اكتشفت معه ان ذاكرتى مدينة تماما لأنامله وللخيال الذى لم يكن عاطلا عن العمل.
لمت نفسى لأنى شأن آخرين اختزلت جهده فى العمل العظيم «الليلة الكبيرة» وفى فيلم «شفيقة ومتولى» ولم أكن قد رأيت تلك الكنوز الهائلة التى غمرنى بها فى ذلك الصباح ومنها أفيشات وتصميمات ديكورات وملابس أفلام ليوسف شاهين ولغيره.
سألنى عن اللوحة التى نشرتها وكيف عثرت على المجلة وراح فى نوبة حنين لزمن أحمد بهاء الدين، لكنه على خلاف مجايليه لم يكن من ضحايا النوستالجيا أو هواة السقوط فى بئر اليأس وبقى متمسكا بالأمل.
فى حواراتنا التى تواصلت بعد ذلك أفرط فى الحديث عن تلاميذه بتواضع يصعب تفاديه، وتجنب الحديث عن نفسه قدر الامكان.
وفى كل مرة كنت أشعر أننى فى حضرة صوفى أو بين يدى راهب غسل قلبه من هموم الدنيا، لكنه ينفر من الوصايا ولا يدعى الحكمة.
وتدريجيا أدركت أننى ازاء منظومة قيم روحية وجمالية وانسانية فريدة وصلت به إلى المكانة فلم ينشغل بالمكان.
لم يزاحم ناجى شاكر على شىء، لكنه لم يعتزل، غامر كفنان حقيقى وظل فى فضاء لا يرضى فيه بما أنجز، سعيا لتجاوز الثنائية الخائبة عن الاصالة والمعاصرة ونجح فى تقديم إجابته الناجحة عن سؤال الهوية، كان يرى انه لا معنى ابدا للحديث عن خصوصية ما فى ظل شعور بعدم الندية فأى أمة لديها ما تقدمه بشرط أن تدرك قيمة ما تملك.
مات ناجى شاكر وانتهت «الليلة الكبيرة» دون أن تتحقق أمنيات محبيه فى إقامة متحف يحمل للبهجة اسمه أو إصدار كتاب تذكارى يوثق لأعماله الجديرة بالخلود.
مات وهو يحتفظ بطفولته الدائمة كأنه يرسم ابتسامة، أو يناجى طيرا فى سماء لا حدود لها.