القيم التراثية كمدخل لبناء الثقافة الذاتية - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القيم التراثية كمدخل لبناء الثقافة الذاتية

نشر فى : الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 6:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 6:35 م

فى اعتقادى أن المنطلق لبناء ثقافتنا العربية الذاتية المستقلة والقادرة على التفاعل المتوازن التضامنى مع ثقافات الآخرين يبدأ من معرفة، وتجديد إن لزم، الأسس الفكرية والقيمية والسلوكية التى انطلقت منها ثقافتنا التراثية من أجل الحكم، إيجابا أو سلبا، على فكر قيم وسلوكيات العصر الذى نعيش.

وهنا سنضطر لانتقاء بعض مما فصّله المرحوم المفكر عبدالله عبدالدائم فى كتابه «فى سبيل ثقافة عربية ذاتية» نعتقد أنه مفصلى ويمّثل مداخل فكرية وقيمية كبرى، حتى ولو لم تتحقق فى الواقع المعاش عبر الكثير من فترات تاريخنا.

أولا: لنأخذ موضوع الفردانية الذى ترسّخ فى عصرنا كقيمة وسلوك يتميّز بالأنانية المفرطة والتركيز على ما يخدم الذات وليس الجماعة أو المجتمع أو الإنسانية. هذا بينما أن تراثنا الثقافى يعطى أهمية قصوى لمسئولية الفرد. فالفرد يأمر نفسه ومن حوله بالمعروف وينهى نفسه وغيره عن ممارسة المنكر. وتلك المسئولية تقررها الأخلاق قبل أن تكون ملزمة بالقانون. ودافعها هو السمو الداخلى واحترام الذات وليس المنافع الشخصية الأنانية. والإنسان يظل شاعرا بوطأة الذنب والقلق النفسى حتى ولو برّأه القضاء أو غضّ المجتمع النظر.

لعلّ إصرار القرآن الكريم على ربط صحة الإيمان ومتانته بالعمل الصالح هو من أجل التأكيد على أن فكر الفرد وأقواله لا قيمة لهما إلا إذا أصبحا فعلاً فى الواقع.

ثانيا: إن تلك المسئولية الفردية القيمية التى بينّا لا تتحقق أخلاقيتها ولا سمو مروءتها إلا ضمن تعايش اجتماعى تضامنى مشترك، يساهم فيه الفرد ويساهم فى حمل أعبائه بألف صورة وصورة. وهذا أيضا يتناقض كليا مع منطلقات وسلوكيات النيوليبرالية التى يعيشها العالم حاليا، والتى تنادى باختفاء دولة الرعاية الاجتماعية وبعدم مسئولية الفرد تجاه أية جماعة بما فيها العائلة والحزب والنقابة والطائفة والمؤسسات الإنسانية فى أشكالها الكثيرة.

ولا يحتاج الإنسان إلى التذكير بما وصلت إليه المجتمعات العولمية من غياب للتراحم والتعاطف لحساب إرواء كل أنواع الشهوات الفردية باستهلاك نهم مجنون، ليعيش الإنسان فى عزلة اجتماعية ونفسية مأساوية قد تقود إلى الجنون أو الانتحار. وإنه لمنطقى أن يقود كل ذلك إلى ظواهر ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، وفى تضاؤل حجم الطبقة الوسطى وفاعليتها، وفى جنون تنافس الدول التجارى المجنون المباعد لعلاقات البشر.

ثالثا: لما كان هناك هوس بالنسبة للحرية الفردية ومناداة بإعطاء الفرد حريته الكاملة دون أية ضوابط أو أى اعتبار لحرية الآخرين وأنظمة المجتمعات، تتبين الأهمية القصوى للموازنة المعقولة فى تراثنا الفكرى فيما بين حرية الفرد وحقوقه من جانب وحرية المجتمعات وحقوق الشعوب من جانب آخر. لقد نادى بقوة لأهمية تحرير الإنسان من أى استغلال، خصوصا الاقتصادى، وشدد كثيرا على حرية الإنسان الشخصية فى الوقت نفسه: حرية الإيمان والتفكير والتعبير، وجعل الاعتداء على فرد مساويا للاعتداء على كل البشر. ولخّص قيم الحرية تلك قول شهير لعمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، كما ثبّت وأضاء روحها آية «لا إكراه فى الدين« وآية «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن». إنها الديمقراطية السلمية الضميرية بكل تجلياتها، دون أن تديرها الدولة العميقة أو يهيمن عليها أصحاب المصالح من وراء ستار.

رابعا: تكتمل صورة ذلك المشهد التحررى الديمقراطى فى قيمة الشورى. وبالرغم من كل المشاحنات حول معانى ومحدّدات مبدأ الشورى إلا أنه يظل قيمة مفصلية فى جعل شئون الشعوب والمجتمعات راجعة فى العمق والروح والرمز إلى إرادة ومصالح الشعوب والمجتمعات، وليس إلى أية جهة كانت تدّعى لنفسها حقّ التصرف بما تمليه تلك القيمة من ممارسات.

وتتجلّى روعة تلك القيمة عندما تجعل الشورى مبدأَ لا فى أمور السياسة والحكم فقط وإنما فى كل مؤسسات المجتمع بالتوجيه الشهير «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

خامسا: تصل تلك المنطلقات القيمية فى التراث العربى الإسلامى إلى تألقها وروعتها فى قيمة القسط والميزان، أى العدالة. وهو موضوع بالغ الأهمية إذا علمنا بأن روح الرسالة الإسلامية التى حملها العرب كانت تتعلق بالأهمية القصوى لممارسة القسط والميزان والعدل والابتعاد الضميرى والأخلاقى والسلوكى والحقوقى عن كل أنواع الظلم. كل القيم التى ذكرنا سابقا لا تنسجم ولا تتعايش مع الظلم، الذى يبطلها أو يشوهها. إن حساسية تراثنا الفكرى والقيمى والدينى تجاه موضوع العدالة والمساواة ونقيضهما الظلم سنعود إليه المرة تلو المرة عندما نصل إلى المشروع النهضوى العربى ومفصليته المستقبلية.

 

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات