أتفاجأ فى كل سنة بأن هناك يوما عالميا للغة العربية، فمع كثرة الأيام العالمية للمواضيع المختلفة أجد نفسى أنسى بعض الأيام المتعلقة بمواضيع قريبة من قلبى. ثم تذكرنى بها جملة يقولها أحدهم أو بيان صادر عن إحدى المؤسسات. وكما يحدث معى كل عام، أراجع مع نفسى تعقيد لغتنا وجمالها وفن كلماتها وثقل تاريخها. فالأرض «اللى بتتكلم عربى»، على رأى فؤاد حداد، تمسك بى من رقبتى ولا تسمح لى أن أفلت منها.
أسبح فى عالم تختلط فيه اللغات والثقافات، لأجد نفسى، حين أشعر أنى أكاد أغرق، أتمسك بقشة على شكل حرف الألف، ألم، أو أطوق بيدى حرف الحاء، حب، أو أحشر وجهى فى دائرة حرف الميم، مودة. أتمسك بالحروف الأبجدية بعد أن أجردها من قشورها، من طبقات الذل والقمع والقهر التى عشت على قراءتها فى هذه اللغة منذ ولدت، أخلع عن اللغة العربية ما ارتبط بها من مناظر للحروب والتهجير والترحال والظلم، ألبسها رداء من النبل والكرم والعراقة تستحقها جميعا، وأرقص معها فى ساحة أطلق فيها أحلامى وآمالى.
وبعيدا عن استرجاع خيباتنا التى سبق وكتب عنها الكثيرون، وبعيدا أيضا عن التغنى بأمجاد قديمة مازال كثيرون يستحضرونها من التاريخ الأبعد من بعيد وكأنما قد حدثت لهم شخصيا، يسكن قلبى دوما حب لا ينتهى للغة العربية، وشعور دائم بالتقصير تجاهها. فى داخلى ارتباط لا ينفك معها، ورغبة دائمة فى حمايتها. كأم تفاجئ أطفالا يتعدون على ابنتها، ترانى أفرد يدى أمام من ينتهكها، ألوح بسببابتى فى وجه من ينتقص من قدرها. أطبطب عليها وأستسمحها عن سوء معاملتنا لها. لكنك يا لغتى شديدة التعقيد، شخصيتك مركبة ونكهاتك متعددة، حتى أننى أشعر أننى فى حضرة عدة أشخاص حين أكون معك.
ففى الفصحى أنت جدية، صارمة، لا مجال للعبث معك حتى حينما أحاول التحايل على قواعدك، يعيدنى المدقق فورا إلى مكانى، فلا مكان عندك للدلع. أنت قوية، ذكية، تنقضين على من يستمع إليك كالسيف، ثم تربتين عليه كالأم الحنون. فى المصرى أنت خفيفة وفى اللبنانى موسيقية، أما فى العراقى فأنت قاسية إلا حين تظهرين دلال العالم كله بكلمة واحدة آمرة محبة مغناج: اتدلل.
***
ثقيلة على قلبى، تضرب اللغة العربية أطنابها فى روحى فلا تفارقنى، ترمى بحملها على كتفى، فأشعر بهما ينحيان من وزن التاريخ وثقل السنين. قال أحدهم يوما إن هويتنا العربية قاتلة، وأشعر فعلا أحيانا باللغة تمد لنا لسانها وتفرك يديها وهى تتمرغ فى القتل.
هل ظننت حينا أن بإمكانى أن أفلت منها فألقى ملاذا فى لغة أخرى؟ لا وألف لا، فكلمات الحب لا تخرج منى بصدق إلا باللغة العربية، وصيحات الألم لا تنبض إلا بها، الحنين يخرج باللهجة الشامية والنكتة بالمصرية، فأين المفر؟
لا مفر، يبدو لى من حيث أجلس على كرسى المراقب لما يحدث من حولى، لا مفر من لغة الدم ولغة الحب، تلف أياديها حولى كأخطبوط فلا أعرف كيف أتخلص منها ومن قصصها. أرفع عيناى فتقعان على خريطة للمشرق العربى علقتها على الحائط أمامى.
أنا من هناك، من هذه الأرض التى شربت الدم وأنبتت شقائق النعمان. أنا من هذا المثلث الذى أراه على الخريطة، أقرأ أسماء مدن حكمها ملوك وغزتها جيوش فدمرت مرات ثم بعثت من جديد. دمشق، بغداد، القدس، بيروت. أنا من هناك، من هذا المثلث الذى لطالما حير العالم وحيرنا معه، لا أستطيع أن أهجره فحباله تشدنى من عنقى حين أحاول أن أبتعد. أمشى بضع خطوات وأعود، فإما أن أحاول شد الحبال وأختنق، أو أبقى فى مكانى أدور حول نفسى فتتعقد الحبال فيما بينها وتشتد حول رقبتى. لا أستطيع أن أقطعها وأن شددتها اختنقت فهى ملتفة حول رقبتى ومثبتة فى تربة أرض ذلك المثلث.
أداعب طفلتى فتخرج منى كلمات جدتى، أتحدث مع ابنى فأسمع لكنة والدتى، حين يستخدم طفلى كلمة دخيلة أنهره: «نحن منحكى عربى» ها أنا أرمى بثقل اللغة على كتفيه الصغيرتين، أعيد ما فعله بى والدى من قبل حين أجبرنى على الالتزام بقواعد اللغة وقواعد اللعبة. أنا من هناك، حيث للغة قوام وللكلمات طبقات لا تنتهى. نعتقد أننا فهمنا المعنى وأزلنا طبقة فنكتشف تحتها بركانا هامدا. للكلمة ألف معنى ومعنى، وللهمسة ألف تفسير وتفسير. أعاتب صديقة فأرى حجتى أقوى باللغة العربية، وأقاطع قريبا فتخرج منى كلمات قديمة كنت قد سمعتها أول مرة من والدى حين كنت طفلة.
اللغة كطبقة جلد على بقعة نعتقد أحيانا أن بإمكاننا أن نسلخها عنا، يقشرها بعضنا وقد يتخلص بعضنا الآخر منها إلا أنها تترك أثرا بنظرى على باقى جسدنا، فحتى لو نمت مكانها طبقة جلد جديدة إلا أن الأصلية كانت الأنسب لنا لو كنا حافظنا عليها.
***
فى اليوم العالمى للغة العربية، تحية إلى الكلمات التى تخرج منا بلغتنا الأم دون تفكير، فتلك هى الأصدق والأكثر عفوية، تلك هى الكلمات التى تخرج من القلب إلى اللسان دون «فلتر». فى اليوم العالمى للغة العربية أحتفل بلغتى فأذكر أحب كلماتها إلى قلبى، وأتذكر أن قلبى «بيتكلم عربى»، تماما مثل الأرض، وأننى مهما حاولت فإن الألم والحب والقهر والشوق والحنين هم الأقوى.. بالعربى.