قبل شهر واحد رأيت أستاذتى الغالية الكاتبة الصحفية ماجدة الجندى للمرة الأخيرة وكان ذلك خلال حفل توقيع كتاب «إبراهيم ناجى، زيارة حميمة تأخرت كثيرا» بمبنى القنصلية، بوسط البلد.
وللأسف لم أتبين صورتها حين طلبت الحديث فى الندوة التى أدرتها، لأن الكثير من الوهن قد أصابها وأخفت الكمامة وجهها الجميل وغيرالمرض من ملامحها تماما، حتى أنها نادت من خلف الصفوف: «أنا ماجدة الجندى»
كعادتها تحدثت عن الكتاب بعمق وفهم وعذوبة وبلغة تخصها، أجادت تضفيرها وتحولت معها لـ«ماركة مسجلة».
كتبت جل مقالاتها بالفصحى الناعمة، الا أن عشقها للعامية جعلها ترصع مقالها بمفردات من قلب الحياة اليومية وتضعها بين علامتى تنصيص كمن يرصع قطعة من الماس.
أحببت ماجدة الجندى قبل أن أعرفها شخصيا، فحين بدأ اهتمامى بالصحافة كانت مجلة «صباح الخير» خلال رئاسة تحرير رءوف توفيق ولويس جريس معشوقتى الكبرى وكانت ماجدة من بين نجماتها مع درية الملطاوى وكريمة كمال ومنى سراج ونجلاء بدير وأخريات، بحكم اهتماماتى الأدبية كثيرا ما استوقفتنى حوارات أجرتها مع نجيب محفوظ ولويس عوض ومحمود العالم وادوارد سعيد وعبدالرحمن الشرقاوى وكلها حوارات رسخت فى كيانى وارتبطت باسمها لذلك تضاعفت سعادتى حين وجدتها إلى جوارى فى مؤسسة الأهرام عند التحاقى بها.
دخلنا معا فى يوم واحد، والتحقنا بفريق مجلة «الأهرام العربى» وتولت رئاستى وقادت خطواتى الأولى ومعى الصديقان إبراهيم فرغلى ومحمد بركة وشاركناها حلمها فى تأسيس صفحة للكتب التى لا تزال تصدر إلى اليوم وتحولت بفضلها إلى تقليد.
وضعت ماجدة نفسها فى تحد كبير حين جاءت إلى «الأهرام» واختارت العمل فى الصحافة الثقافية لأنها جاءت من «صباح الخير» أرض الصحافة الحرة التى لا تقبل التصنيف ولا تضع حدودا فاصلة بين معالجات القضايا وظلت تقول: «الصحفى يكتب فى أى موضوع» لكن التحدى الذى اختارته ماجدة كان أكبر من مشكلة التصنيف وتعلق بتخطى نفوذ زوجها الكاتب الراحل جمال الغيطانى الذى كان رمزا أدبيا وصحفيا له نجاحاته ومعاركه أيضا وأشهد أن ماجدة التى عملت معها عن قرب لعدة سنوات زاهية حافظت دائما على قدر كبير من الاستقلال عن «وهج» جيمى ــ كما كانت تسميه ــ وكانت تقول بفرح العاشقين «جيمى فى مكتبه وأنا فى مكتبى».
أحبت ماجدة الجندى الكتابة ولم تؤلف أى كتاب، لولا أن الصديق ابراهيم فرغلى أهدى لها عقب رحلتها الاولى مع المرض كتابا من تأليفها جمع فيه مجموعة من موضوعاتها الصحفية ووضع عنوانا جميلا هو «كما تدور عجلة الفخار» صدر عن دار العين للنشر وكان بمثابة باقة ورد دام عطرها إلى الآن.
غمرها الكتاب بفرح كبير لأنه أكد صدق احساسها بمعنى «الأمومة» الذى غمرتنا به، فقد تخطت العلاقة معها آفاق الزمالة إلى أفق أخر اسمته «أفق الامتنان».
وهبتنا ماجدة الشعور الذى كنا بحاجة اليه ونحن نبدأ وهو الشعور بـ«كرامة المهنة» وتعاملت معنا كأبناء عائلة واحدة تقودها بـ«حنان»، فقد كنا فى غرفة واحدة، نستمع إلى مطالب الأبناء ونسخر من مكالماتها التى لا تنقطع معهما أبدا إلى أن تعود إلى البيت، لكننا أحببنا «أمومتها» أكثر من أى شىء آخر وبقيت علاقتها مع ابنها محمد وابنتها ماجدة تبهرنى ومعها تلقيت تدريباتى الأولى فى معنى «الأبوة».
لم يأت عملها أبدا على حساب كيانها العائلى وظلت تفكر بقلب الأم وعاطفتها الجامحة ، تعطى بلا حساب ولا تنتظر سوى دعم «محمد» الذى كانت تسميه «السند»، وابتسامة من «ماجى» ابنتها التى تحولت إلى أم لها و«مالك» الحفيد الذى تحول إلى «دنيا» كاملة المعالم.
عقب وفاة الغيطانى تصور البعض أن ماجدة قد انكسرت إلا أنها قاومت ألم الفقد بالكتابة وصاغت مجموعة من أجمل ما قرأت تؤرخ فيها لعلاقتهما معا، كنت أقول لها دائما «د» علاقة سبعينية ظلت بـ«نار» تلك الأيام ونورها أيضا» وتوقعت أن تصدرها فى كتاب ولم تفعل ووقعت فى فخ الصحافة المهنة التى تعيش على حافة الأدب.
سيكتب الكثيرون عن ماجدة الجندى وروحها المرحة وتصرفاتها الأنيقة مع الجميع فهى «ابنة الأصول» التى لم تنس ذلك أبدا وخريجة المدارس الفرنسية التى نضجت فى قلب الحركة الطلابية أوائل السبعينيات فتعلمت الانحياز للناس وتبنى قضاياهم، أما أنا فسوف أفتقد قطعة من قلبى وأياما من عمرى هى الأجمل على الإطلاق.