منذ عدة سنوات والمجتمعات العربية تشهد بروز ظاهرة متنامية ولافتة للنظر. إنها ظاهرة تحليل ونقد مصادر الفقه الإسلامى التاريخية الشهيرة من مثل صحيح البخارى ومسلم وكتاب الكافى، وظاهرة تحليل ونقد منهجية الإسناد ومكونات المتن التى قام عليها علم الحديث، وأخيرا ظاهرة محاولات عدة لإعادة قراءة النص القرآنى بأشكال تختلف عما سبقها من قراءات فى أزمنة عربية قديمة ومختلفة عن حاضرنا.
إن ذلك النشاط الدينى والفكرى والسجالى يجرى فى أوساط المفكرين والكتاب وعدد من علماء الدين عن طريق مئات الإصدارات من الكتب وألوف المقالات فى الصحف وفى أوساط المثقفين والإعلاميين، عن طريق المناقشات والتبادلات العالية النبرة فى وسائل الإعلام الإذاعية والتلفزيونية وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعى العالمية الكثيرة.
لكن ما يلفت النظر هو غياب الأصوات والمواقف الرسمية، غير الفردية الشخصية، لقوى الإسلام السياسى التاريخى المنظم بشأن ما يثار. وهو أمر يحتاج لطرح الأسئلة بشأن الكثير من التفاصيل وبشأن مواقف تلك القوى المستقبلية. فإذا كانت قوى الإسلام السياسى تطرح شعار «الإسلام هو الحل» فإن من حق الناس والمجتمعات أن يتساءلوا عن المصادر المعتمدة والمكونات المنتقاة والتجديدات المقترحة التى ستدخلها مختلف القوى الإسلامية السياسية على تفاصيل شعار «الإسلام هو الحل»، وذلك على ضوء نتائج المناقشات الجادة التى تجرى، كما ذكرنا، فى أوساط المفكرين والكتاب والمثقفين وبعض علماء الدين وجمهور وسائل التواصل الاجتماعى.
سنطرح هنا بعضا من الأسئلة الكبرى التى تحتاج لإجابات واضحة وصريحة من الذين يؤكدون أنهم سيقومون بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إذا تسلموا الحكم فى هذه الدولة العربية أو تلك.
***
السؤال الأول يتعلق بموضوع الخلافة الإسلامية فى مقابل الدولة المدنية الحديثة. لقد تأسست الخلافة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها سلطة دعوة ونشر للدين، وبالتالى فإن ولاء رعاياها، من المؤمنين على الأخص، يجب أن يكون فى الأساس للدين وحده.
أما اليوم فإن العالم كله يتحدث عن كيان دولة تهيمن على أرض وشعب، وتعتمد دستورا (أى عقدا اجتماعيا) قوامه المواطنة المتساوية أمام الفرص والقانون، دون أى تفريق بسبب الدين أو المذهب أو الجنس أو العرق. أو الانتماء الاجتماعى. وبالتالى فإن ولاء المواطنين، المهيمن على كل ولاء فرعى آخر، هو للدولة الوطنية.
نحن هنا نتحدث عن الدولة المدنية الديموقراطية، القائمة على الحريات والمساواة والمواطنة والقوانين واستقلالية السلطات الثلاث، والتى لا تستطيع التعايش مع مفاهيم وشعارات من مثل كلمة الذميين، ودفع الجزية، والتكفير، والحاكمية، وعدم الخروج على ولى الأمر، واشتراط موافقة جهات دينية على كل قرارات المجالس النيابية، وولاية الإمام الفقيه، وحصر بعض مناصب الدولة العليا فى أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب، وحجب بعض المناصب عن المرأة المواطنة، وغيرها من مفاهيم فقهية تتعلق بنظامى التعزير ومحاربة المنكر والتى ما عادت صالحة لمجتمعات العصر الذى نعيش، أو من أحاديث مدسوسة على نبى الإسلام، أو من قراءات للنصوص القرآنية التى خضعت فى الماضى للأهواء السياسية وصراعات الحكم.
والسؤال، إذن، هو إن كانت أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسى تتابع تلك الكتابات والمداولات، وإن كانت لها آراء ومواقف علنية واضحة بشأن ما تقبل وما ترفض، وذلك على أسس عقلانية وأخذا بالمقاصد الكبرى للدين المتفاعلة مع واقع البشر من جهة والمبنية على أسس العدالة والحق والقسط والميزان والرحمة من جهة ثانية، وكذلك بشأن انعكاس ما تقبل على دساتيرها وبرامجها وشعاراتها الانتخابية ومقدار ممارستها عند استلامها الحكم. ولنا فى تجارب دول من مثل مصر وتونس والمغرب والعراق دروس وعبر.
***
السؤال الثانى يتعلق بموضوع النظام الاقتصادى فى الإسلام الذى يحتوى على ملابسات واختلافات كثيرة. فالبعض يعتقد أن الربا المحرم فى القرآن الكريم يقتصر على علاقة بين فردين يستغل فيها الدائن ظروف المدين. بينما يرى آخرون أنه يشمل أيضا تعاملات المصارف حتى ولو أنها قائمة على أسس قانونية وتعاقدية مختلفة عما كان يجرى فى الماضى.
وهناك من يحرم أى فائدة يحصل عليها الفرد مقابل شرائه أسهما أو سندات بنكية، ويقترح عقود المضاربة. وليس هنا مجال لبحث هذا الموضوع الشائك، وخصوصا محاولة التمييز بين المضاربة والاستثمار وبين عقود الأشخاص وعقود المال وتجاذبات موضوع التأمين.
ويلاحظ أن الإسلام السياسى، وبصورة عامة، يعطى اهتماما أكبر للمواضيع المالية، من مثل الزكاة والصدقة والجزية والخراج والغنائم، بينما يعطى اهتماما أقل لما تأسس عليه النظام الاقتصادى الحديث من إنتاج واستهلاك وأسعار وعمالة وتطوير تكنولوجى ونظم إدارية... إلخ.
ولا ننسى بالطبع السجالات حول النظام الاشتراكى الإسلامى فى مقابل النظام الرأسمالى الذى يتمش مع أسس الرأسمالية. ما يهمنا، فى المحصلة، هو معرفة ما وصلت إليه الأيديولوجيات السياسية الإسلامية من قبول أو رفض لأهم موضوع فى الحياة العصرية، موضوع الاقتصاد والمال.
السؤال الثالث هو ما يتعلق بموضوع مسائل الأحوال الشخصية التى تحتاج إلى اجتهادات مستمرة تأخذ بعين الاعتبار المبادئ الدولية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل وحقوق المرأة من جهة، وتأخذ بعين الاعتبار التغيرات الكبرى فى ظروف وعلاقات الزواج وحضانة وتربية الأطفال وتعقيدات عمل الوالدين وغيرها من عشرات التغيرات من جهة أخرى.
لا يستطيع الإسلام السياسى أن يعزل نفسه فى قوقعة ويتجاهل ما يجرى فى ساحات الواقع الثقافى والسياسى والاقتصادى العربى المتشابك مع الساحات العولمية المماثلة.
آن أن يكون لديه مفكروه ومنظروه ومثقفوه الذين يتفاعلون بحيوية وعلنية وسجاليه موضوعية مع نظرائهم الآخرين، وليطوروا دساتير ومشاريع وأهداف ووسائل أحزابهم وتنظيماتهم. فمن حق المواطنين أن يعرفوا ما ينتظرهم فى المستقبل إن تسلمت الأحزاب الإسلامية الحكم. هذا موضوع يمس صميم الحياة السياسية والاجتماعية العربية فى الحاضر والمستقبل المنظور، وعدم الدخول فى لججه لن يوصل إلى بر الأمان.
dramfakhro@gmail.com