تهتم العلوم الإنسانية بدراسة الأبعاد المختلفة للظاهرة الإنسانية، وتشمل علوم الأدب واللغة والفلسفة والتاريخ والسياسة والأنثربولوجيا والدين والفن والقانون وغيرها. تستأثر العلوم الإنسانية بنسبة معتبرة من النشاط العلمى، ويشتغل بها مئات الآلاف من الباحثين فى أرجاء العالم، وتقوم بوظائف شديدة الأهمية والحيوية للمجتمعات المعاصرة.
تشهد العقود الأخيرة تراجعًا فى مكانة العلوم الإنسانية لصالح العلوم التطبيقية والبحتة، خصوصًا العلوم التقنية التى تؤثر على نحو مباشر فى شكل العالَم المعاصر، واقتصاده، وسياساته، وغيرها. يهدف هذا المقال إلى المساهمة فى النقاش الدائر حول أهمية العلوم الإنسانية. ويدافع عن أهمية هذه العلوم من خلال توضيح المسئولية الأخلاقية التى يشعر بها بعض المشتغلين بها نحو مجتمعاتهم التى يعيشون فيها، خصوصًا فى البلدان العربية.
هناك حقيقة يتعين علينا تذكرها قبل أن نتحدث عن المسئولية الأخلاقية للباحثين فى العلوم الإنسانية، وأثرها فى تعزيز أهمية هذه العلوم، هى أن النهضة العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر ارتبطت على نحو مباشر بجهود أجيال متوالية من الباحثين فى العلوم الإنسانية، ممن أدركوا أنه لا يمكن تطوير المجتمع تقنيًا، إنْ لم يتحرر الإنسان العربى فكرًا وروحًا وعقلا من قيود التبعية الخارجية والقهر الداخلى. ولم تكن جهود مفكرين عظماء مثل رفاعة الطهطاوى وعبدالرحمن الكواكبى ومحمد عبده وطه حسين وأمين الخولى وجمال حمدان ومئات غيرهم إلا سعيًا متصلًا لإنجاز تحرر الفكر والروح الفردية والجماعية، بأمل إنشاء مجتمعات عربية تُعلى من قيمة الإنسان.
لقد أدرك هؤلاء العلماء المسئولية الأخلاقية للباحثين فى العلوم الإنسانية. فمهمة الباحثين فى هذه العلوم لا تقتصر على وصف الظاهرة الإنسانية، وفهمها، وتحديد العوامل المؤثرة فيها، وتطوير أدوات ومناهج لدراستها، بل تتعداها إلى توظيف هذه المعرفة لأجل تحسين شروط حياة البشر بواسطة تعرية العوامل المؤثرة فى تشويهها وإمراضها، واقتراح سبل معالجتها. بصياغة أخرى، فإن المسئولية الأخلاقية عند الباحث فى العلوم الإنسانية تُلزمه بأن يكون أداة لتغيير المجتمع نحو ما فيه خير البشر، بواسطة واحد من أقوى أسلحة للتغيير؛ أعنى المعرفة النزيهة.
***
هذه المسئولية الأخلاقية تجاه المجتمع تُوجه الباحثين إلى اختيار موضوعات بحوثهم، وطرق معالجتها، بما يُحقق طموحهم بأن يكونوا أداة لتغيير مجتمعاتهم إلى الأفضل. وعادة ما يكون اختيار موضوع البحث محكومًا، من بين عوامل أخرى، بالفائدة التى يمكن أن يجنيها المجتمع من دراسته، والإسهام الذى يقدمه لجعل حياة البشر أكثر إنسانية؛ أى أكثر مساواة، ورخاءً، وتحررًا. وإذا أخذنا علم البلاغة مثالا، فإن المسئولية الأخلاقية للباحثين فيه، تجعلهم يختارون بحوثًا وثيقة الصلة بتشوهات التواصل البلاغى وأمراضه. فيبحثون مسائل مثل كيفية استعمال الكلام أداة للخداع أو القهر أو التمييز أو الإقصاء أو الترويض أو الإذعان. ويفحصون خطابات التلاعب والهيمنة التى يُنتجها أفراد أو مؤسسات؛ بهدف فهم كيفية عملها، ومن ثمَّ، اقتراح سُبُلٍ لمقاومتها. ويدرسون خطابات الشعوب لاستكشاف التجليات الخطابية للإذعان والخضوع، ومظاهر التحرر والمقاومة والاستقلال الخطابى...إلخ.
يتجلى وعى الباحثين بالمسئولية الأخلاقية نحو مجتمعاتهم، كذلك، فى اختيار منظورات بحوثهم، ومناهجها، وأطر التحليل المستعملة فيها. بالطبع، فإن اختيار منظور أو منهج أو إطار تحليل لدراسة موضوع ما تحكمه معايير كثيرة، منها طبيعة الموضوع، وأسئلة البحث، وأغراضه. لكن الوظيفة الأخلاقية للبحث العلمى قد تكون مؤثرة كذلك. فدراسة ظواهر مثل الخطاب التحقيرى الذى يتداوله بعض أهل المدن حول أهل الصعيد أو سكان القرى أو مثل التفاوت الهائل فى السلطة بين بعض شرائح المجتمع وشرائح أخرى، يمكن أن يُدرس بطرق بحث وصفية أو تاريخية أو مقارنة؛ بهدف وصف مظاهرها أو تتبع تطورها التاريخى أو مقارنتها بمجتمعات أو بلدان أخرى. لكن الباحث الذى يشعر بالمسئولية الأخلاقية يدرك أن وصف الظاهرة أو مقارنتها أو فحص عللها أو مقارنتها بغيرها لا يكفى. وأن مسئوليته نحو هؤلاء الذين يعانون من الخطاب التحقيرى أو الخاضعين لظلم اجتماعى فادح تدفعه إلى استعمال مقاربة نقدية أو معيارية، علاوة على ما سبق. فالمقاربة النقدية لمثل هذه الظواهر تمكِّن الباحث من مساءلتها، والكشف عن الآثار السلبية التى تُحدثها، وتعرية القوى التى تكمن وراءها، وفضح محركاتها. أما المقاربة المعيارية فقد تتجاوز ذلك إلى تقديم توصيات وإرشادات بشأن سبل التعامل مع مثل هذه الظواهر ومقاومتها، سواء باقتراح قوانين رادعة، أو استجابات بليغة قادرة على وقف هذه الخطابات فى المستقبل.
***
تتجاوز المسئولية الأخلاقية فى العلوم الإنسانية مسألة إنتاج المعرفة النزيهة إلى العمل على تفعيل نتائج العلم فى الحياة العملية. لذا يقوم الباحثون فى العلوم الإنسانية بدور فى صياغة شكل الحياة العامة فى المجتمعات المعاصرة. فإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى سبل مواجهة مرض خطير فى المجتمعات المعاصرة هو شيوع خطابات التمييز والعنصرية والكراهية والإقصاء فإننا نجد أن دور الباحثين فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا سيما فى أوروبا، حاسم فى هذه المواجهة. فهم يشكلون جزءًا أساسيًا من استراتيجية مقاومة هذه الخطابات؛ سواء أخذت شكل سن تشريعات وقوانين رادعة، أو تعزيز ممارسات تواصل صحية فى الفضاءات العمومية، أو نشر الوعى بمخاطر إساءة استعمال الخطاب فى مؤسسات المجتمع، أو التعريف بنماذج إيجابية ملهمة للمجتمع، أو غيرها.
تزداد أهمية المسئولية الأخلاقية لباحثى العلوم الإنسانية فى المجتمعات العربية بخاصة؛ نظرًا لأن معظم هذه المجتمعات تعيش تشوهات مزمنة فى الحياة التى تعيشها شعوبها، بسبب أشكال لا حصر لها من إساءة استعمال السلطة فى الجوانب المختلفة من حياة البشر. فقد ترك التاريخ الطويل من الاستعمار الخارجى والحجر الفكرى والاستبداد السياسى ندوبه على أرواح الأفراد، وعقولهم، وفكرهم. وعلى الباحثين فى العلوم الإنسانية مسئولية ضخمة لعلاج هذه الندوب، والأخذ بيد مجتمعاتهم نحو مستقبل أكثر تحررًا وإنسانية.