عنصريتنا.. وعنصريتهم - يحيى عبدالمبدي محمد - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 3:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عنصريتنا.. وعنصريتهم

نشر فى : الخميس 22 فبراير 2024 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 22 فبراير 2024 - 8:20 م
ربما لا يوجد مجتمع على وجه الأرض يخلو من داء العنصرية أو لم يعرف فى مرحلة من مراحل تاريخه شكلا من أشكالها مثل التنميط، والتمييز، والفصل العنصرى، والعبودية. ورغم أن العنصرية طالت عناصر وأعراقا بشرية مختلفة، فإن الإنسان ذا العرق أو اللون الأسود هو أكثر من تعرض ويتعرض للعنصرية فى معظم أصقاع المعمورة.
ونحن فى عالمنا العربى جزء من هذا السياق، نسمع ونشاهد ونطالع ونتابع ونمارس أشكالا من أشكال التمييز والعنصرية خاصة تجاه العرق واللون الأسود. وأظن أننى لا أحتاج إلى ضرب الأمثلة أو تقديم البراهين والأدلة على وجود داء العنصرية فى مجتمعاتنا العربية. فهى موجودة فى الشارع، والمدرسة والعمل، والأفلام والأغانى والبرامج، والمسرحيات وعلى وسائل التواصل الاجتماعى التى تعج بالتعليقات والنكات العنصرية أو التى تسخر من شخص بسبب لونه أو شكله. وقد استمعت منذ أسابيع فى ندوة أكاديمية عن العنصرية واللون فى السودان، الذى معظم سكانه من أصحاب البشرة الداكنة، وكيف يتم التمييز فى المجتمع السودانى بناء على درجة دكانة لون البشرية التى تنتهى باللون الأزرق.
ومنذ عام أو يزيد، حضرت جلسة فى مؤتمر جمعية دراسات الشرق الأوسط فى الولايات المتحدة المعروفة اختصارا باسم «ميسا»، وكان محور التقديمات والأوراق عن العنصرية فى الشرق الأوسط، وما زلت أتذكر أن أحد الأوراق كانت تتحدث عن مصر بعنوان «تحسين النسل»، فى إشارة إلى تفضيل الزواج من أصحاب البشرة الفاتحة، وغنى عن القول إن كثيرا من الرجال العرب يحلمون بالزواج من شقراء وعيونها زرقاء!.
ولا يتوقف الأمر عند المجتمعات العربية، فقد عرفت الهند والصين واليابان وغيرها من المجتمعات غير الغربية فى مراحل مختلفة من تاريخها العنصرية والشعور بالتفوق على الآخر.
وبالتالى لا يمكن إنكار أن مظاهر العنصرية وأشكالها موجودة فى كل مكان وزمان تقريبا. ومع ذلك فمن الظلم أن نساوى بين هذا الطيف الواسع والمتفاوت للعنصرية، مع عنصرية الثقافة الغربية التى تراكمت عبر قرون لتصبح طبقة من طبقات الثقافة ضاربة فى بنية العقل الغربى.
• • •
إن العنصرية فى الثقافة الغربية، ليست مجرد نكتة أو تعليق، أو مشهد فى فيلم يسخر من عرق أو لون، وهى ليست تمييزا وتنميطا فحسب، بل أيديولوجية وبنية عميقة فى تكوين العقل الغربى الذى يشعر بالتفوق العرقى والاستعلاء البيولوجى على الأجناس الأخرى. ويا ليت الأمر توقف عند الشعور بالاستعلاء والتفوق، ولكن شهدت المجتمعات الغربية على مدار قرون ممارسات شنيعة، وعنف وجرائم ترقى إلى حد التطهير العرقى والإبادة.
لقد كان الشعور بالتفوق الحضارى يزداد فى الغرب منذ القرن السادس عشر، وكان الاعتقاد السائد حتى بين النخبة فى الغرب أن السود أقل قدرة من الآخرين على التفكير أو الإبداع، وقد أضفى بعض كتاب النخبة الغربية الشرعية على العنصرية من خلال الترويج للنظرية العنصرية العلمية التى ساهمت فى انتشار نظرية تفوق الجنس الآرى، وأن الأجناس البشرية غير متساوية.
كما ارتكب الغرب على مدار قرون كل أشكال الجرائم العنصرية الشنيعة التى يندى لها جبين الإنسانية، فقد وضع ملك بلجيكا العنصرى ــ ليوبولد الثانى ــ السود من الكونغو فى حدائق حيوان شرق العاصمة بروكسل، وقامت ألمانيا فى ناميبيا بالبحوث الطبية والتشريحية على السكان السود لإثبات تفوق الجنس الآرى الأبيض بيولوجيا. أما فى ولايات الجنوب الأمريكى، فقد عاش العرق الأسود أبشع أشكال العبودية وجرائمها، وأقل ما يمكن وصفه ورصده أن أسماء عائلات الأمريكيين السود ليست أسماء أجدادهم، ولكن أسماء عائلات ساداتهم من البيض، فجاكسون، وديفيز، وواشنطن، ووينفرى... إلخ، كلها أسماء عائلات السادة. ومن ثم، لم يفقد الأمريكى الأسود إنسانيته وحريته وكرامته، بل فقد أصوله وتاريخه واسم عائلته. كان التعامل مع السود فى ولايات الجنوب الأمريكى تحديدا بوصفهم كائنات وممتلكات وأشباه حيوانات. ولا يتناسب هذا السياق وسرد قصص العنصرية الوحشية التى عاشها السود فى المجتمعات الغربية، التى لا تكفيها مجلدات من الكتب.
والمدهش أن الممارسات العنصرية كانت مقبولة فى أوساط المجتمعات الغربية على المستوى الدستورى والقانونى والعرفى الاجتماعى. ولنا فى نظام الفصل العنصرى البائد فى جنوب إفريقيا مثالا ودليلا. وهذا لم يحدث فى أى مجتمع مارس شكلا من أشكال العنصرية فى العالم غير الغربى. بل إن العبودية التى مارستها شعوب الشرق عبر التاريخ، كانت فى العالم العربى والإسلامى وفى الصين لا تستهدف عرقا محددا، كما هو الحال فى الغرب الذى استعبدالعرق الأسود حصرا.
ولم تتراجع هذه الممارسات إلا بعد سن القوانين فى الستينيات والسبعينيات بتجريم العنصرية وأشكالها فى المجتمعات الغربية، وتحديدا فى الولايات المتحدة. ومع ذلك لم تنتهِ العنصرية، ولكن تحولت إلى عنصرية جديدة لا تنتهك القوانين، فما زالت الغالبية العظمى من السود يقيمون فى مناطق وأحياء فقيرة أو معدمة، والفجوة الاقتصادية بينهم وبين الأعراق الأخرى فى المجتمعات الغربية شاسعة، وسياسات إفقار وتجهيل مجتمع الأمريكيين من أصل إفريقى وإغراقه بالمخدرات والعنف قائمة ولم تنتهِ يوما. وما زال التوتر العرقى كامنا فى بنية المجتمع، ويظهر بين الحين والآخر فى حوادث مثل حادثة مقتل جورج فلويد الشهيرة عام ٢٠٢٠ على يد شرطى أبيض عنصرى.
• • •
صحيح أن أنماط وأشكال العنصرية قد تراجعت بشكل كبير. وصحيح أن السود فى المجتمعات الغربية الآن متساوون أمام القانون مع مواطنيهم ومواطناتهم من مختلف الأعراق والألوان. وصحيح أنهم قد حققوا مكاسب وحقوقا، وأصبح من بينهم الرياضى البارز والممثل المشهور والأستاذ الجامعى والقاضى والمدير والوزير، بل حتى الرئيس، ولكن معظم هؤلاء الذين بلغوا تلك الدرجات والمناصب لا يمثلون المجتمع الأسود فى الغرب تمثيلا منصفا. فالرئيس الأمريكى الأسبق، باراك أوباما، على سبيل المثال ينتمى إلى الثقافة البيضاء ويمثلها أكثر من أى شىء آخر. لقد تعلم فى أغنى وأرقى الجامعات الأمريكية وعاش حياة المواطن الأبيض منذ نعومة أظافره.
العنصرية الغربية هيكلية وبنيوية وهى أيديولوجية تفوق فكرى وعقلى قائم على أسس بيولوجية تقسم البشر إلى رتب ودرجات حسب العرق والجنس. وهى متأصلة بعمق فى الثقافة الغربية البيضاء التى ازداد شعورها بالتفوق منذ الكشوف الجغرافية، والثورة الصناعية، وتبنى المذهب الرأسمالى والأفكار الداروينية، ومن ثم كان الاستعمار الغربى وما تلاه من هيمنة.
والعنصرية كما يذكر الباحث والسياسى الأمريكى، دينيش دى سوسا، نقلا عن عالم السياسة، أندرو هاكر، متأصلة بعمق فى لغات الغرب وفى مقدمتها الإنجليزية، فكل ما يدعو إلى التشاؤم والسلبية هو أسود؛ السوق السوداء، والقائمة السوداء، والسحر الأسود، والأغنام السوداء، والحارس الأسود، والراية السوداء، والحصان الأسود، والقط الأسود، وغيرها من التعبيرات التى تحتوى على الخوف والهواجس والشر. وللأسف نتيجة سيطرة الثقافة الغربية ومركزيتها فى العالم، ترجمت هذا المصطلحات إلى لغات العالم واستعملت دون مراجعة أو نقد إلا قليلا، مثل نزوع العرب إلى استعمال لفظ أسمر بدلا من أسود، فنقول القارة السمراء، والشاب الأسمر بدلا من الأسود.
ورغم أن دينيش دى سوسا شخصية مثيرة للجدل، ومتهم بالعنصرية، فإنه قد شهد فى دراسة كتبها عام ١٩٩٥ بعنوان «هل العنصرية فكرة غربية؟» باختلاف عنصرية الغرب عن باقى الأشكال والأنماط حول العالم قائلا: من الواضح أن العرب والصينيين لم يطورا أيديولوجية منهجية للعنصرية كما فعل الغرب، ربما كان هناك غطرسة حضارية وشعور بالتفوق السياسى والاقتصادى والعسكرى، وهذا موجود فى كل الثقافات فى مرحلة ما من مراحل تاريخها، ولكن عندما تتحول هذه الغطرسة إلى بيولوجيا تكون النتيجة العنصرية القميئة بكل بشاعاتها.
• • •
حاول الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقديم النموذج الديمقراطى الإنسانى، خاصة فى ظل أجواء الحرب الباردة والمنافسة العسكرية والسياسية والثقافية مع الاتحاد السوفيتى والمعسكر الشرقى. وفى ظل رغبة المعسكر الغربى كسب معركة العقول والقلوب حول العالم، كان على الغرب والولايات المتحدة تحديدا التوقف عن سياسات الفصل العنصرى والتمييز ضد مواطنيها ومواطناتها السود. ولا يمكن التقليل فى هذا السياق من ضغط وتأثير كفاح حركة الحقوق المدنية فى الستينيات ضد القوانين والممارسات العنصرية.
ولا أزعم أن المجتمعات الغربية كلها مجتمعات عنصرية تخلو من أصحاب الضمائر والنزعات الإنسانية التى لا تفرق بين دين أو لون أو عرق، بل إن كثرا منهم يتعاملون بحساسية مفرطة وشعور بالذنب فى التعامل مع الأقليات العرقية، خاصة السود. ولكن حديثى عن السائد والشائع وعن القيم العنصرية الكامنة فى أعماق الإنسان وتاريخه وثقافته. خاصة وأن معظم الشعوب والحكومات والمجتمعات الغربية تدعى احترام حقوق الإنسان وتبنى قيم الحداثة الأخلاقية.
يحيى عبدالمبدي محمد أستاذ مشارك بجامعة جورج تاون
التعليقات