نشر موقع درج مقالا للكاتب «حازم الأمين» يتناول فيه قضية الفساد فى لبنان ومكافحته.
يجترح اللبنانيون هذه الأيام ملحمة جديدة، إنها ملحمة «مكافحة الفساد»، الكل تهيأ للمهمة، «حزب الله» و«حركة أمل» والتيار العونى، يقودون تسونامى «مكافحة الفساد»، «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية» أقل اندفاعا للمهمة، ثمة مشاهد فى نشرة أخبار الساعة الثامنة تجعلك تشعر بذلك، محطتا «أل بى سى» و«نيو تى فى» سبقتا الحزب والحركة والتيار فى تصدر العاصفة. مقدمات نشرات إخبارية علينا أن نفكك شفراتها لكى نفهم ما تشير إليه. «مدير مكتب أحد الوزراء يزور توقيع أحد المحامين»، وعلينا نحن المشاهدون أن نعرف من هو الوزير ومن هو المحامى ولماذا أقدم مدير المكتب على التزوير! «حزب الله» يدفع بملايين الوثائق إلى النيابة العامة المالية. يقول الحزب إن مصير 11 مليار دولار، هى حصيلة مساعدات فى أعقاب حرب يوليه 2006، مجهولة المصير. ثم يعود ويقول إنها لم تسرق، لكنها أنفقت بطريقة غير قانونية! الحزب لم يقل للبنانيين لماذا صمت عنها طوال 13 عاما، ولم يقل لنا أيضا لماذا قبل بهذا الإنفاق غير القانونى طالما أنه كان مشاركا فى كل الحكومات منذ ذلك التاريخ! وربما كان تيار المستقبل أقل الجهات تنطحا لمهمة «مكافحة الفساد»، على الرغم من أن التيار تصدع بفعل تطاير المغانم من فوق رأس صاحبه ووقوعها فى أحضان مساعديه. وهو إذ استنكف عن «مكافحة الفساد» ارتكب خطأ تكتيكيا، فأنه من غير الجائز ترك المهمة لأصحاب الطوائف الأخرى.
الجميع يريد «مكافحة الفساد». اللبنانيون أنفسهم يريدون «مكافحة الفساد». ما هو الفساد؟ لا أحد يعرف. ومن هم غير الفاسدين؟ لا أحد يعرف. إنها ملحمتنا الجديدة. لقد حررنا الجنوب من الاحتلال الإسرائيلى فكانت ملحمتنا الأولى، وبعدها طردنا جيش النظام السورى، وكانت ملحمتنا الثانية، وها هى الملحمة الثالثة تلوح بصفتها نصرا ثالثا. وثمة «جبناء» يقولون إن من صنع النصر الأول هو الجيش السورى الذى طردناه فى نصرنا الثانى، ومن صنع النصر الثانى هو أمريكا، التى طردناها فى نصرنا الذى أعقبه، وبما أن النصر على الفساد لم يجد من يصنعه، فلن يعثر على ضالته قريبا.
الاحتلالات طردتها احتلالات، والفساد سيكافحه فساد. هذا هو لبنان، وهذه هى ملاحمه. «حزب الله» يريد أن يكافح فساد «تيار المستقبل»، والتيار العونى يريد أن يكافح فساد حركة أمل، وعندما أطلت نائب من خارج هذه الاصطفافات وتحدثت عن الفساد لم تجد من يحميها. «حزب سبعة» الذى رشحها إلى الانتخابات النيابية سجل لها فيديو وسربه إلى التيار العونى، وتقاضى فى مقابله منصبا صغيرا. ثم إننا فى لبنان صار لدينا ذباب إلكترونى يتولى بث فيديوهات مصنوعة لتشويه الخصوم. قبل هذا كانت الطوائف تحمى الفاسدين، وهى ما زالت تحميهم إلى اليوم، ولكن هذه الإضافة أعطت لـ«مكافحة الفساد» نكهة جديدة. جبران باسيل كان ليذكرنا بميشال المر، الوزير الدائم فى حقبة وصاية النظام السورى، لكن الذباب الإلكترونى أضاف إلى «دائميته» أثرا جديدا. لن تحمى بولا يعقوبيان أقلية انتخبتها فى بيروت. سائقها السابق فى حوزة الوزير، وهو سيحصى لها أنفاسها، ولن تسقط الطائفة الكبرى فى فخ الخمسة عشر ألف دولار التى دفعها الوزير ليفتح صالون الشرف فى مطار هيثرو.
«مكافحة الفساد» فى لبنان فعل هذيانى. الفساد هو الواقع، ومكافحته نوع من الهلوسة. 11 مليار دولار أوضح «حزب الله» أنها مجهولة المصير ثم عاد وأكد أنه عثر عليها، لكن صرفها تم على نحو غير قانونى! حين قال ذلك كاد يجنح إلى القول إن الطائفة السنية فاسدة، وكم يبدو هذا القول ممكنا طالما أن الطائفة الشيعية فاسدة أيضا. المسيحيون بدورهم يحاولون تعويض ما فاتهم من فساد فى سنوات إقصائهم، ذاك أن من استحوذ على حصتهم فى ذلك الزمن كان عديم التمثيل. الانتخابات أثبتت ذلك، ووظيفة الانتخابات فى لبنان هى تظهير التمثيل الصحيح بهدف تحقيق توازن فى الفساد. والأرجح أننا أنجزنا جزءا كبيرا من هذه المهمة. السياسة هى إدارة هذا التوازن. وهذا ليس من باب المبالغة والترميز. «الفاسدون» هم الأكثر تمثيلا، والناس يحبون الفاسدين وينتخبونهم. من يدعى غير ذلك تكذبه الأرقام، وتكذبه صناديق الاقتراع.
فى لبنان، لم يحصل تزوير فى الانتخابات يتيح القول إن النواب جاءوا، رغما عن إرادة الناخبين. وفى الوقت ذاته، لا يختلف لبنانيان على أن الفساد صفة أولى من صفات الكتل النيابية كلها. الفساد إذا «شرعى» وتمثيلى وتوازنى وميثاقى. الفساد جوهرى فى الجمهورية اللبنانية الثالثة. ولا أحد يستطيع مكافحته، طالما أن أهله منتخبون ومكرسون وثابتون.
النص الأصلى:من هنا