يمكن للمرء أن يبدأ رواية الحروب الصليبية من ألف موضع. المؤرخون الأوروبيون يبدأونها من فتح القدس على يد عمر بن الخطاب، لكى يبدو الغزو الصليبى استردادا. والمؤرخون العرب من معاصرى الأحداث كابن الأثير وابن القلانسى وغيرهما يبدأونها بوصول حملة الفقراء الصليبية بقيادة بطرس الناسك ووالتر المفلس إلى ساحل تركيا الشمالى، وكتب التاريخ المدرسى تبدأ القصة بوقعة ملاذ كرد بين ألب أرسلان السلجوقى وإمبراطور بيزنطة، وإستغاثة البيزنطيين بالكنيسة الكاثوليكية فى روما. ويحلو لكثير من المؤرخين الفرنسيين أن يبدأوا القصة بمشهد البابا أوربان الثانى يدعو الناس إلى الحرب الصليبية فى كليرمونت بجنوب فرنسا واعدا إياهم بغفران خطاياهم إذا استجابوا، فيهتف الحاضرون جميعا، «الرب يريد ذلك».
أما أمين معلوف فيختار فى كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب» أن يبدأ القصة بمشهد دخول قاضى دمشق، فخر الإسلام أبى سعد الهروى إلى الديوان العزيز، أى إلى حضرة الخليفة العباسى فى بغداد، أمير المؤمنين أحمد المستظهر بالله بن المقتدى (حكم من 1094 إلى 1118) يستنجد به على ما حل بالأمة من وبال ويخبره بتفاصيل احتلال الصليبيين للقدس وسائر فلسطين. ويروى مؤرخو هذه الحقبة ممن رجع إليهم معلوف، أن كل أهل بغداد ثاروا مع أبى سعد الهروى وجماعته من اللاجئين الشاميين، ودخلوا مسجد الخليفة ومسجد السلطان وكسروا أعواد المنابر، وهى عند المسلمين رمز السلطة الأبرز كالعرش والتاج عند الفرنج، وأنشد الشاعر أبو المظفر محمد بن أبى العباس الأموى الأبِيْوَردى، قصيدة يصف فيها مذبحة بيت المقدس ويُعير بها الحكام فى ترك الأرض والرضا باستباحة العرض، ربما أصبحت أشهر فى زماننا هذا من زمانه:
«مزجنا دماء بالدموع السواجمِ/ ولم يَبْقَ مِنَّا عُرْضَةٌ للمَرَاحِمِ/وشرُّ سلاح المَرْءِ دَمْعٌ يُفِيضُه/ إذا الحربُ شُبَّتْ نارُها بالصوارمِ/فإِيها بنى الإسلامِ إنَّ وَرَاءَكُم/ وقائعُ يُلحقْنَ الذُرَى بالمَناسمِ/ أتهويمةٌ فى ظلِّ أمنٍ وغبطةٍ/ وعيشٍ كنوَّارِ الخَمِيلةِ ناعمِ/ وإخوانُكم بالشامِ أَمْسَى مَقِيلُهُمْ/ ظهورَ المَذَاكِى أو بطونَ القَشَاعِمِ/ وكم من دماءٍ قد أُبيحت ومن دُمَى/ تُوَارى حَيَاء حُسْنَها بالمَعَاصِمِ/ فتلكَ حُروبٌ من يَغِبْ عن غمارِها/ ليسلمَ يقرعْ بعدها سنَّ نادمِ/سَلَلْنَ بأيْدِى المُشْرِكِينَ قَوَاضِبا/ ستُغْمدُ مِنْهُم فى الطُّلَى والجماجمِ/ يكادُ لهنَّ المستجنُّ بطَيْبةٍ/ ينادى بأعلى الصوتِ: يا آل هاشمِ/ أرى أمتى لا يشرعون إلى العِدى/ رماحَهمُ والدينُ واهى الدعائمِ/ فليتهمُ إذ لم يذودوا حَميَّة/ عن الدينِ ضنوا غَيْرة بالمحارمِ»
•••
تجمع الروايات أن الخليفة بكى حين بلغته هذه الأخبار، وعد بالجمع والاحتشاد وإقامة فروض الجهاد لاسترداد البلاد إلا أنه لم يزد على هذا الوعد، والحق أنه لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئا. فقد كان الخلفاء العباسيون بلا حول ولا قوة لمدة تزيد على مائتى عام منذ مقتل أمير المؤمنين جعفر المتوكل عام 861 على يد ضباطه وقادة جيشه. والسلطة الحقيقية كانت فى يد سلاطين السلاجقة القادمين من آسيا الوسطى. إلا أن هؤلاء لم يكن لهم سلطان واحد، بل أربعة، كلهم أخوة، ويتنافس اثنان منهم على بغداد. فكانت عاصمة الرشيد ودار الخلافة ومناط قلوب الأمة وجامعة شمل المؤمنين، على أبواب الغرق فى حرب أهلية بين أخوين لأب واحد، هما ركن الدين والدنيا بَرَكْيارُقْ، وغياث الدين والدنيا محمد، ابنا جلال الدين والدنيا مَلَكْشاه بن ألب أرسلان السلجوقى، ولم يكن لدى أى منهما وقت ولا رغبة أن يحوِّل رماحه عن صدر أخيه إلى صدور الغزاة.
•••
ولم تكن الحال أفضل فى بر الشام، فهو أيضا كان غارقا فى حرب بين أخوين هما ابنا عم بركيارق ومحمد المتقاتلَين على بغداد، فدمشق كانت فى يد شمس الملوك أبو النصر دُقَاق بن تُتُش بن ألب أرسلان، وحلب فى يد أخيه فخْر المُلك رضوان بن تتش بن ألب أرسلان. وكانا يتقاتلان على ملك الشام كما كان أولاد عمهما يتقاتلان على ملك العراق. والطريف أن كلا من هؤلاء السلاطين ذوى الأسماء والألقاب المضحكة كان يبرر حربه ضد أخيه برغبته فى توحيد الأمة، ويزعم أن هذه الحرب الأهلية هى خطوة أولى ومرحلة ضرورية لمواجهة الغزاة فيما بعد. وقد أدى الصراع بين الأخوين تتش إلى سقوط أنطاكية فى يد الصليبيين، حيث لم يرد دقاق إنجاد المسلمين فيها خوفا من أن يمر جيشه فى أراضى أخيه المعادى له فى حلب، ولم يرد رضوان إنجادهم لكى لا تفرغ حلب من الجند، ويشتبك هو مع الفرنج فى الشمال الغربى فيأتيه جيش أخيه من الجنوب الشرقى.
ثم بعد سقوط أنطاكية سار الفرنجة بلا مقاومة تذكر حتى أخذوا القدس، وهذه أيضا كانت ضحية لصراع لعين بين طائفتى الأمة، بين السلاجقة كلهم فى إيران والعراق والشام من ناحية، والفاطميين فى مصر من ناحية أخرى، فقد كان السلاجقة أخذوها من الفاطميين، ثم استردها الفاطميون منهم قبيل وصول الإفرنج بقليل، وكان الفاطميون على علاقة جيدة بالبيزنطيين، حيث أرادوا أن يضعوا السلاجقة الشاميين بين حجرى رحى، فيكون البيزنطيون على تخومهم الشمالية والفاطميون على تخومهم الجنوبية، ولم يعلم الفاطميون أن البيزنطيين، حين استعانوا بالكنيسة الكاثوليكية وبالفرنج الغربيين لم يعودوا محتاجين إلى التحالف مع القاهرة، وأن الأرثذوكس فى القسطنطينية والكاثوليك فى روما كانوا أعقل من السنة والشيعة فى مصر والعراق والشام، فاتحدوا هم وبقينا نحن متحاربين، وأن الحملة الصليبية ستأخذ القدس مهما كان سلطان القاهرة كنزا استراتيجيا للغزاة.
•••
أظن القارئ أدرك أنى لا أتكلم عن حرب دارت من تسعمائة سنة، بل عن ما يدور اليوم. فى الشام والعراق سنة الأمة وشيعتها يتقاتلون وكل طرف يزعم أن حربه مع أخيه لها أولوية على محاربة الغزاة، وفى مصر حكومة تظن عم التصادم مع الغزاة يحميها ويعفيها من شرهم، والغزاة يبنون سرر العاج وشرفات الذهب فى القدس، مطمئنين إلى أن كل الإخوة من حولهم يحارب بعضهم بعضا على الثريد الأعفر. نحن فى شهرنا هذا نتذكر مذابح الغزاة ضد الجميع، ففى شهر إبريل وقعت مذبحة دير ياسين، ومذبحة بحر البقر ومذبحة قانا، وولغ الغزاة فى دماء الفلسطينيين والمصريين واللبنانيين. ومن المحزن أن لا جهة سياسة فى مصر سواء فى الحكومة أو فى المعارضة، تطرح فكرة إلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولا جهة سياسة فى الشام تفكر فى أن الاشتباك مع إسرائيل قد يكون هو السبيل إلى توحيد الصف وإنهاء الحرب الأهلية فيه. كل يريد قتل أخيه أولا، ولا أحد يسمع أو يقرأ.