ضبط السردية الإسلامية للتاريخ البشرى! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضبط السردية الإسلامية للتاريخ البشرى!

نشر فى : السبت 22 أبريل 2017 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 22 أبريل 2017 - 9:30 م

قبل أن يتم تجديد الخطاب الدينى أو تطويره لا بد أولا من إعادة صياغة الوعى ومن ثم إعادة تشكيل القناعات، لأن تجديد أى خطاب فى ظل سردية تاريخية مبتورة ومنحازة لا يمكن أن ينتج أى جديد!
يتشكل الوعى الشعبى لمعظم المسلمين المتدينين عادة على خمسة قناعات تاريخية، الأولى هى جاهلية مرحلة ما قبل الإسلام والتعامل معها باعتبارها مرحلة ظلامية كافرة معادية للبشرية شديدة البؤس والجهل. ثم تأتى القناعة الثانية لتتشكل حول كون الإسلام وميلاده ورسالته ثورة اجتماعية وسياسية غير مسبوقة أزاحت الظلمات البشرية ومهدت للحضارة والتطور، والثالثة أن حضارة الإسلام ظلت عظيمة طالما تمسك المسلمون بدين الله ثم انهارت لأنهم ابتعدوا عن الله فتشرذموا وتقطعت بهم الضروب والوصال، والرابعة أن الحضارات الصليبية الغربية تآمرت على الإسلام حتى انهارت آخر دول الخلافة على يد شخص مشكوك فى إسلامه وموالاته لليهود، والخامسة والأخيرة أن حكام المسلمين فى معظمهم متآمرين خونة موالين للغرب الصليبى الكافر!
القناعات الخمس سالفة الذكر عادة ما تداعب الخيال الشعبى لعامة المسلمين على الأقل فى مصر والمنطقة العربية ويلزم لهم إعادة ضبط ومعالجة بحثية علمية للبعد عن ذلك القصور الذى ينتج عادة انتظار طويل لحلم جميل لن يتحقق بسهولة أو ببساطة على الأقل فى الأجل المنظور، ألا وهو حلم الخلافة الإسلامية التى تسود العالم وتعيد تشكيل منظومة قيمه وأخلاقه!
***
القناعة الأولى قناعة غير صحيحة بالمرة، فحضارات ما قبل ظهور رسالة الإسلام كانت حضارات عظيمة بتقييمات عصورها، حضارات عمرت الأرض وأنتجت معرفة إنسانية وطورت العلوم والآداب والفنون، فالحضارات الفرعونية والصينية والهندية والآشورية والفينيقية والفارسية واليونانية والرومانية هى مجرد أمثلة لحضارات سبقت الحضارة الإسلامية ولا تقل عظمة عنها من الناحية البشرية بعيدا عن أى تقييمات دينية هى بطبيعتها متحيزة.
أما القناعة الثانية فهى قناعة صحيحة نسبيا ولكنها ابنة بيئتها الجغرافية، بعبارة أخرى، فإن الحضارة الإسلامية نورت منطقة شبه الجزيرة العربية فى فترة كانت الأخيرة أقل تقدما وتحضرا وإنتاجا ومعرفة من جارتيها الفارسية والرومانية الشرقية (البيزنطية)، لكن لا يعنى هذا أبدا أنه بمجرد ظهور الحضارة الإسلامية فقد انتفى إنتاج أو أثر الحضارات العظيمة التى سبقت ظهور الإسلام، إعادة ضبط هذه القناعة تحديدا هو أمر فى غاية الأهمية لضبط فهم المسلمين عموما والإسلاميين خصوصا تجاه عملية التطور البشرى. غير الإسلام علاقات القوة ومن ثم النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمنطقة شبه الجزيرة ثم تدريجيا إلى الشمال الأفريقى والشرق الآسيوى والعمق الأفريقى ومنطقة البحر المتوسط.
ثم عادت الحضارة الإسلامية نفسها لتنحصر وتخسر تدريجيا بفعل عوامل التاريخ الطبيعية التى مرت بكل الحضارات البشرية ولا علاقة لهذا الانحصار بالبعد عن الله أو البعد عن الإسلام وهنا لا بد من إعادة مناقشة القناعة الثالثة!
فيما يتعلق بالقناعة الثالثة، فكما أوضحت فى مقالات سابقة مرتبطة بهذه السلسلة أن الدول الإسلامية نفسها قد انقسمت وتحولت إلى دويلات متصارعة بعد فترة ليست بالطويلة من وفاة الرسول وانتهاء الخلافات الإسلامية الراشدة. هنا يجدر القول أن جزءا رئيسيا من تطور الحضارة الإسلامية فى عز عنفوانها كان قائما بالأساس على الانفتاح على العلوم وأدوات البحث العلمى غير الخاضعة للكهنوت، ومن ثم الإبداع الفلسفى القائم على الأدوات الجدلية للتوصل إلى إجابات خاصة بفهم الظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعة بل والانفتاح على الفنون والآداب وغيرها من الإبداعات البشرية التى يعتبرها البعض الآن حراما وبعدا عن الله!
اتصالا بما سبق يمكن أيضا إعادة رسم القناعة الرابعة، فهزيمة الخلافة العثمانية (آخر خلافات المسلمين اسما) قد جاءت بفعل عوامل سياسية وأخرى متعلقة بالسباق البشرى على أدوات الإنتاج والتنمية والتحديث! فالسبق الغربى للثورة الصناعية فى بريطانيا والثورة السياسية فى فرنسا أنتج أدوات مادية ومعرفية عجزت الإمبراطورية العثمانية على مجاراتها، وتاريخ الصراعات بين الإمبراطورية العثمانية ونظيراتها الغربية هو تاريخ صراع بشرى لا دينى حتى لو حاول بعض السلاطين العثمانيين أو الملوك الأوربيين التخفى وراء بعض الشعارات الدينية (إسلامية أو مسيحية) لتعبئة الجماهير خلف مشاريعهم السياسية ومطامعهم التوسعية! بل أن الملفت للنظر أن الكثير من سلاطين الإمبراطورية العثمانية قد تخلوا عن لقب الخليفة والخلافة إلى أن استعادها عبدالحميد الثانى فى محاولة بائسة لإعادة ترميم الخلافة الآخذة فى الانهيار ولكن كانت محاولته متأخرة للغاية!
يلاحظ أيضا أنه وبغض النظر عن أى تقييمات دينية لتجربة مصطفى كمال أتاتورك فإن الكثير من المناطق ذات الأغلبيات المسلمة كانت قد تخلت تماما عن الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها السياسية (مصر على سبيل المثال وليس الحصر) قبل انقلاب أتاتورك بعشرات السنين وبالتوازى جاءت القوى الاستعمارية المنتصرة فى صراعات القوة العالمية لتستحوذ على معظم مناطق العالم الإسلامى. وكما نرى لم يكن كل ذلك إلا صراعات بشرية سياسية لا علاقة لها بالتآمر على الإسلام كدين من قريب أو بعيد!
ثم تأتى القناعة الخامسة والأخيرة غير دقيقة أيضا، فالحقيقة أن معظم الحكام المسلمين فى المجتمعات العربية تابعون للقوى العظمى كما يمكن اتهام بعضهم بالفساد بكل تأكيد لكن فكرة الموالاة للغرب الكافر تأخذ بالعقل المسلم إلى ما لا يحمد عقباه؛ لأن هذا الإيمان يمثل امتدادا لفكرة المؤامرة الصليبية على الإسلام مما يغذى بقوة تيارات العنف والإرهاب المكفرة لمعظم الأطر الحداثية المنظمة للدولة القومية الحديثة. والحقيقة أن الفارق بين الحكام العرب وغير العرب فى المجتمعات الإسلامية كبير، ولكنه يعود إلى قدرة المجتمعات الإسلامية غير العربية على التحديث والتنمية فى أطر تعددية تقبل بالدولة القومية وترتيباتها ولا علاقة للأمر بالفكرة المبسطة للخيانة والمولاة.
***
مناقشة القناعات التاريخية الخمس السابقة تشكل فى رأى بداية لتغير وعى المسلمين بتاريخ البشرية، لأنها ستلفت نظرهم ببساطة لمدى ثراء التاريخ غير الإسلامى ومدى إسهامه فى التقدم والتحضر البشرى، ومن هنا يمكن إعادة فهم تاريخ الحضارة الإسلامية باعتباره تاريخا مكملا للحضارات البشرية لا ماحيا أو مكفرا لها كما يداعب البعض خيال العامة!
لا بد للمسلمين اليوم أن يعلموا أن الكثير من الحضارات غير الإسلامية ساهمت فى إعمار الأرض بشكل لا يقل أبدا عن تاريخ إسهام الحضارة الإسلامية، وأن الشعوب المنتمية لتلك الحضارات شعوب لها ماضٍ عريق يجب احترامه وتقديره والبحث عن التكامل معه لا محاربته ومحوه بدعوى التفوق الإسلامى.
لا بد للمسلمين اليوم أيضا أن يتفهموا أن الحضارة الغربية تقف اليوم سابقة متقدمة عن غيرها من الحضارات بسبب الأخذ بأسباب التقدم والتحضر لا بسبب التآمر على الإسلام، وأن تلك الحضارة قامت بلا أدنى شك باستيعاب الكثير من الشعوب غير الغربية فى كنفها واتبعت معادلات دمج قد نختلف فى تقدير مدى نجاحها، لكننا لن نختلف أنها أكبر بكثير من قدرة المجتمعات العربية والإسلامية على دمج غير المسلمين (من مواطنيها وليسوا المهاجرين إليها)، وأن الإنتاج الحضارى الغربى أصبح يفوق نظيره الإسلامى بآلاف المرات!
ثنائية الجهل والتأخر المخلوطة بكمية الصلف والغرور التى يعانى منها بعض المسلمين أو الإسلاميين بشأن الماضى والحاضر وطريقة النظر للآخر لا بد أن تتغير، ولن يحدث ذلك قبل أن تتطور المعرفة الشرعية لتستخدم مناهج التاريخ وطرق البحث العلمى لفهم الظواهر الطبيعية والإنسانية التاريخية منها والمعاصرة بعيدا عن خزعبلات الإعجاز العلمى التى ليست أكثر من محاولات دفاعية بائسة وفاشلة لتعويض تلك الفروق الحضارية لأنها تخلط أدوات العلم القائم على التجربة والاختبار المادى بأدوات الدين القائم على الوحى والرسل لتخرج منتجا معرفيا مشوها أصبح بمثابة مخدر للمسلمين على إدراك أسباب التأخر!

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر