فى مطلع العام الجارى خاض عددٌ من رجال الدين مباراة فى كرة القدم. ليس الحدثُ بأمرٍ يُذكَر، ولا أهمية خاصة للمباراة؛ فلا لعبة الكرة مُحرَّمة على الناس ولا المباراة حاسمة فى مسابقة كأس أو دورى رسميّ، مع ذلك ظهرت صور الفريقين؛ قساوسة ومشايخ، فى الصحف، مؤطرة، بارزة، تجذب أنظار القراء وتدفعهم للاستزادة مُوحية إليهم بأن ثمة إنجازًا وقع.
فى متن الخبر المنشور، ذكر المواطن الذى فكر ورتب ونظم وخاطب أولئك وهؤلاء، أنه أراد إقامة المباراة منذ وقعت أحداث الكنيسة البطرسية، كى يجمع بين المسلمين والمسيحيين فى أجواء تفاعُلية مُبهِجَة وغير تقليدية، وأنه اهتدى إلى مُخاطبة الأئمة والقساوسة كى يلتقوا على أرض الملعب طمعًا فى تحقيق الهدف. جاء العنوان بما لا يخفى على فطنة القارئ؛ إذ اشتمل بالطبع على شعار «الوحدة الوطنية»، ذاك الشعار المُزمِن، المُستقر فى أفواه الحُكَّام جميعهم، والذى لا يجد له انعكاسًا حقيقيًا على الأرض، من حُقبَة إلى أخرى ومِن عهد إلى عهد. حمل العنوان أيضًا تلك اللمسة الصحفية التى لا تخلو من مُبالَغة مُعتادة وركيكة فى آن، فوَصَفَ الصورة بالعبارة التالية: «مباراة وحدة وطنية بين الشيوخ والقساوسة.. مصر فى الملعب». جرت وقائع المباراة فى واحدة مِن محافظات الصعيد، وأشار الخبر فى سطره الأول إلى هتافات الجمهور الحاضر: «ياللا يا شيخنا أيوه يا أبونا».
•••
لا شكّ أنه ما اجتمع أولئك وهؤلاء إلا أداءً لواجب مُحدَّد ومُعلَن أيضًا؛ إذ لا مسألة الترفيه عن النفس واردة فى هذا السياق، ولا يشكِّل أصحابُ الجلابيب على اختلاف ألوانها فِرقًا مُتنافسة فى مِضمار الرياضة بأية حال، إنما هم يلتقون فى مُناسبات مَعروفة، صار قليلها مُفرِحا وكثيرُها مُوجِعا أليما، يكررون الكلماتِ نفسها ويتصافحون المصافحة نفسها وتنقل وسائل الإعلام صورهم ثم يعود كلٌّ منهم إلى مقره راضيًا بما قدَّم.
ارتدى القساوسة الجلبابَ الأسود كما جرت العادة بينما احتفظ المشايخ بالجلباب الأبيض أو الرماديّ بدرجاته المُتقارِبة، ولم تكن هناك ضرورة للظهور بالملابس الرسميّة إلا أن تتجلى الهُوياتُ المتباينة مِن خلالها، تأكيدًا على الغرض المراد تحقيقه: نحن لسنا واحدًا لكننا نلعب سويًا، أما الكرة فقد ظهرت فى المنتصف؛ يختلط فيها البياضُ بالسوادِ كأنها هى الأخرى ترفع شعارَ الوحدة الوطنية، لكنها لا تعرف أين تذهب، فالأقدام التى يجب أن تحرّكها وتقودها، بدت عاجزة عن التحرُّك فى فضاءِ الجلابيب.
جاء فى مَتنِ الخبر أيضًا أن المباراة بدأت بالوقوف دقيقة حدادًا على أرواح الشهداء: «من الجيش والشرطة والكنيسة» ولهذه العبارة وقع غريب فى نفسى بالنظر إلى الترتيب، فالمؤسسة التى تحكُم تأتى أولا، والمؤسسة التى تُسيطِر على الناس تأتى ثانيًا، وأخيرًا يأتى المواطنون أنفسهم فى ذيل العبارة أو فى ذيل قائمة الشهداء، وكأن قيمتهم أدنى ومكانتهم أقل. هذا الترتيب يتكرر مع تكرار أحداث العنف، رغم أن التعرُّض إلى المَخاطِر لهو مِن صَميم عَمَل الجيش والشرطة، ورغم أن موت الناس هو بمثابة فشل للمؤسستين فى عملية التأمين.
•••
مرت بضعة أشهر على مباراة كرة القدم «الدينية» التى أبى المشاركون فيها أن يظهروا فى هيئة مواطنين عاديين، متشابهين، لا يفصل بينهم الملبس، ولا يزعجهم ارتداء أزياء رياضية عادية. استرجعت الخبر فى ذهنى مع تجدُّد أحداثِ العنف التى طالت هذه المرة كنيستين فى يوم واحد، فقد توالت بحكم العادة التى لا تنقطع أحاديثٌ براقة وتصريحاتٌ لامعة حول مسألة «الوحدة الوطنية»، كذلك استعدت فى ذاكرتى صور الفريقين، خاصة مع ظهور الأحضان والقبلات وكلمات التعازى والتهانى وغيرها على الشاشات وفى الصحف، تلك الشكليات التى يضطلع بها رجال الدين مِمَن تبوأوا مناصبهم فى المؤسسات الرسمية وأخذوا على عاتقهم مُهِمّة تزيين الواقع وتجميله.
•••
عاودنى مع الخبر والصورة هاجسٌ مُتَجَدِّد: مصر ليست الشيوخ والقساوسة ولا يمكن أبدًا اختصارها فى هذه الصيغة المخلة، مصر لم تكن فى الملعب كما جاء نصّ العنوان، هى أرحب بكثير وأعمق بكثير وأعظم غنى وثراءً، مصر متعددة الأطياف والألوان بما لا يمكن لهذين الفريقين حصرًا التعبير عنه، لا بصكّ البيانات والخُطَب العَصماء ولا بكُرةٍ يملؤها الهواء وتحيط بها عمائمٌ وصُلبان.