أن تتحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات هاتفية ورقمية على الشبكة الأخطبوطية والشبكات الاجتماعية فيها شىء من وحى الخيال العلمى رغم الحديث الحالى عن عودة الناس إلى حياة أبسط وأبطأ وأكثر إنسانية، أشعر وكأننى أقرأ فصلا فى كتاب من النوع الذى أتفاداه فى العادة، فأنا لم أولع قط بكتاب 1984 لجورج أورويل ولم أحب كتاب العمى لجوزيه ساراماغو ليس بسبب مضمونهما اللغوى أو الأدبى، فأنا لست سوى قارئة لا وزن لى فى تقييم أى كتاب إلا من زاوية ما أحب ولا أحب. أنا لا أحب الديستوبيا، ترهقنى محاولات تصور المستقبل وكأنه تحول إلى كاريكاتور مخيف لا يضحكنى. أنا أخاف من الأدب والفن الذى يظهر تحول المجتمع بشكل يفرغه من العلاقات كما أحبها، بعفوية، بحلوها ومرها، بشكل يفرغه من بعض السذاجة التى أستسيغها. أخاف من مستقبل يدير فيه رجل آلى حياتى، رغم أن بوادر الرجل الآلى بدأت بالدخول إلى الحياة الحديثة منذ دخلت الآلات على المنازل وعلى العمل.
***
فى الشهر الأخير، وفى حياة من قرروا محاولة التخفيف من اللقاءات والوجود فى أماكن مكتظة، زادت الأحاديث الهاتفية، ربما عاد البعض، وأنا منهم، إلى الاتصال بالناس بدل إرسال رسائل نصية أو صوتية، كما بدأ البعض، وأنا أيضا منهم، باستخدام برامج اتصالات تسمح لعدة أشخاص بالاشتراك بالمكالمة فى محاولة لخلق مناسبة اجتماعية افتراضية.
***
وبينما خففت التكنولوجيا من ذلك الشعور الغريب بالبعد، ورغم أننى ممتنة لوجود التكنولوجيا فى حياتى وواعية أن الحصول على الإنترنت والتطبيقات هو أصلا امتياز لا يتوفر للجميع، إلا أننى أشعر بأننى تائهة فى عالم التواصل عن بعد، أشتاق لفكرة زيارة وحديث وقهوة، قد لا أزور شخصا لشهور طويلة إنما إمكانية الزيارة تكون موجودة وعدم الزيارة هو قرار.
***
اليوم ومع انتقال كثير من العلاقات الإنسانية أونلاين، وهو انتقال قد يخفف من هول ما يحدث حول العالم، إلا أننى أشعر كمن تم ربطه بحبل بالكرسى، حتى لو كان الحبل طويلا وسمح لى بالحركة. ها أنا أتحدث مع أصدقاء، أرى وجوها وتعابير على الشاشة، أسمع صوت الأذان من حيث هم، فى مدينة بعيدة، أرى النور يخف من الشباك خلفهم على اليمين، يبدو أن حديثنا قد طال وكأننا معا وقت غروب الشمس.
***
لكننا لسنا معا، رغم أننى أرى غرفة الجلوس فى الشاشة. أنا أتحرك فى المطبخ وحديث صديقتى على مكبر الصوت. ماذا تعجنين؟ تسألنى من بيتها فى بيروت. هذه كفتة، أرد ويدى فى الطبق. لو كنا معا ربما كانت ستقف قربى هنا فى المطبخ ونكمل حديثا عن صديقين قررا أن يرتبطا أو عن تطور ما فى عملى أو عملها. ربما سنجلس قرب الشباك وربما تقف عند طاولة السفرة تساعدنى فى التحضير لاستقبال أصدقائى فيما بعد.
***
الاحتمالات كثيرة، لكن هذه المكالمة أونلاين لا توفرها. الآن ماذا تعملين؟ تسألنى الصديقة. مربى، أنا أعمل هنا فى هذه القدرة مربى، ألا تشمين رائحته السكرية؟ لقد ملأت المكان، لقد خففت من جفاف ما حولى، سوف أريك لونه، انظرى هل ترين السائل وكأنه كريستال ملون؟ زجاج على نافذة الكنيسة القديمة، أتذكرين تلك الكنيسة فى الشام؟ نعم حنانيا فى الحارة قبل الباب الشرقى لدمشق. نعم لدمشق سبعة أبواب، وفى الربيع تبدأ أطباق المربى بالظهور على الشرف وفى أرضيات البيوت الداخلية، ففى دمشق ينعقد السكر فى الشمس فتبقى ألوان الفاكهة زاهية فى المربى، على عكس ألوان المربى القاتمة حين يتم عقد سكره على النار.
***
يدور هذا الحديث من خلال شاشة تربطنى بصديقتى، ننتقل داخل بيتى إلى داخل بيتها فنصبح كجارتين فى حارة حنانيا فى دمشق، أفتح بابى وتفتح بابها ونسحب كرسيين من القش لنجلس أمام بيتينا بعد أن نفرد الفاكهة والسكر فى وعائين، لكل منا واحد، نضعه فى الشمس ونتحدث. هكذا إذا وبلحظة تحول التكنولوجيا الحديثة التى تخفف من سوريالية ما يحدث حولى إلى حديث صباحى فى حارة قديمة فى فترة ما قبل الإنترنت وقبل التواصل الاجتماعى وقطعا قبل الكورونا.
***
أعتقد أن ثمة تناقض صارخ فيما يدور حولى، فمن جهة هناك محاولة لإغلاق الفضاء العام ومن جهة ثمة محاولة للعودة إلى نوع من التواصل واللقاء كان قد خف فى السنوات الأخيرة. رسائل صوتية مختصرة فيها تعليمات أو حتى تمنيات بعام ملىء بالأفراح. لماذا لم أتصل وأتواصل بدل أن أرسل رسالة نصية صرت أراها اليوم تشبه الورقة الصفراء اللاصقة التى قد يتركها زميل على مكتبى فأكرمشها وأرميها فى سلة المهملات وأنا أتساءل لماذا لم يأت بنفسه بدل أن يلصق الورقة؟
***
يرن هاتفى فأتساءل من ذا الذى يريد أن يتواصل بدل أن يرسل، ثم أرد لأننى بدأت أتعود من جديد على الحديث، الأخذ والرد، أفتح الكاميرا وأتحرك فى البيت. أريد أن تشم أمى رائحة المربى، أريدها أن ترى لونه وأنا أحرك الوعاء فى الشمس. هنا فى الشاشة، أعد أننى سوف أعطى وعاء من المربى إلى كل شخص هاتفنى وأنا فى المطبخ أشتاق لأن تكون مع أمى وصديقتى وسط الرائحة السكرية.
كاتبة سورية