لم يلبث الحديث عن تفاهمات تركية ــ روسية مرتقبة حول ليبيا تتيح إبرام اتفاق «سوتشى» جديد يضمن حماية مصالح الطرفين بها، ويخولهما تقاسم الغنائم وتحديد مناطق النفوذ هناك، أسوة بما جرى فى سوريا، يستحوذ على نصيب الأسد من الجدل الاستراتيجى العالمى، حتى عاود الانحسار على وقع اتساع رقعة الخلاف بين موسكو وأنقرة مؤخرا بشأن تطور الأوضاع الميدانية على الساحتين السورية والليبية، بوتيرة دفعت أنقرة إلى إعلان إرجاء مباحثات مباغتة، كانت ستستضيفها فى الرابع عشر من الشهر الجارى، بحضور وزيرى الخارجية والدفاع التركيين ونظيريهما الروسيين.
ففى سوريا، تفاقم التأزم إثر تواتر الخروقات الروسية والتركية لاتفاق مارس الماضى بشأن وقف إطلاق النار فى إدلب بعدما جددت روسيا ضرباتها لمواقع الجماعات الجهادية والمعارضة هناك، ردا على انتهاك أنقرة للاتفاق بمواصلتها استقدام التعزيزات العسكرية وإقامة نقاط مراقبة جديدة بذريعة التصدى لهجمات قوات الأسد، فيما يعزوه خبراء إلى تطلعها لتوسيع تموضعها الاستراتيجى فى سوريا حتى مشارف حماة. أما فى ليبيا، فقد أخذت الفجوة بين موسكو وأنقرة فى التنامى مع رفض الروس هيمنة الأتراك على ميناء سرت وقاعدة القرضابية، ومد موسكو جسور التنسيق مع باريس لإجهاض أى مخططات تركية للسيطرة على البؤر الجيواستراتيجية والثروات النفطية والغازية بشرق وجنوب البلاد، فى الوقت الذى يتفاوض وفد أمنى تركى مع حكومة الوفاق لاستخدام قاعدتى الوطية الجوية ومصراتة البحرية، ليكونا نقطة انطلاق للمطامع التركية عثمانية الهوى والهوية بشمال إفريقيا وشرق المتوسط.
بيد أن مقتضيات السياسة الخارجية التركية التى ترسخت ثوابتها قبل قرن خلا، مع اشتداد وطأة الضغوط الأمريكية والأوروبية على الأتراك خلال الآونة الأخيرة، كانت كفيلة بإجبار أنقرة، التى أذلها محدودية الخيارات وتواضع الإمكانات بفعل التآكل التدريجى لفائض القوة العارض، على القيام باستدارة استراتيجية لإعادة توجيه بوصلة سياستها الخارجية عبر كبح جماح تقاربها الاستراتيجى المتسارع والمستفز مع روسيا، تزلفا لواشنطن وحلفائها الأطلسيين، الذين لم يدخروا وسعا فى العمل على تقويض ذلك التقارب عبر عديد سبل.
فعسكريا، وردا على تفاهمات موسكو وأنقرة بسوريا وتعاونهما التسليحى المتوج بإتمام صفقة منظومات «إس 400» الصاروخية الروسية، والطامح لعقد صفقات مماثلة بشأن منظومات «إس 500» الأكثر تطورا، ومقاتلات «سوخوى 57» المكافئة لـ«إف 35» الأمريكية، فرضت دول أوروبية حظرا تسليحيا على تركيا، فيما هرع الكونجرس لتعليق مشاركتها ببرنامج تصنيع المقاتلات الشبحية متعددة المهام، وتجميد صفقة بيعها مائة منها، استنادا إلى تشريع «مواجهة خصوم أمريكا عبر العقوبات»، CAATSA، الذى يقضى بفرض عقوبات ثانوية على أى دولة تبرم صفقات تسلح نوعية مع موسكو. وهى الخطوة التى تصيب برنامج الصناعات الدفاعية التركى الناشئ فى مقتل، كونها تسد عليه روافد التكنولوجيا العسكرية المتطورة التى تغذيه، كما تحرمه قطع الغيار والمكونات الدقيقة اللازمة لإكمال دورته التصنيعية.
أما اقتصاديا، وبموازاة عقوبات أوروبية رمزية غشيتهم مؤخرا، شرع ترامب فى لى عنق الأتراك بحزمة من التهديدات والإجراءات العقابية التى زلزلت اقتصادهم المترنح، تجلى أقساها فى إلغاء مزايا تجارية يتمتع بها ألفا منتج صناعى تركى يلج الأسواق الأمريكية بلا رسوم جمركية بموجب برنامج «النظام المعمم للأفضليات»، ما من شأنه تكبيد الاقتصاد التركى المهترئ 63 مليون دولار سنويا قيمة رسوم سيعاد فرضها على تلك المنتجات، وتقليص الاستثمارات الأمريكية بتركيا، وتبديد أمل الشريكين لزيادة حجم تجارتهما البينية من 22 مليار دولار إلى 75 مليار دولار سنويًّا، ما فاقم محنة الليرة التركية المتداعية. وتوخيا لتحرير أمن الطاقة الأوروبى من الهيمنة الروسية، وإفساح المجال للغاز الصخرى الأمريكى ليغزو أسواق القارة العجوز، وتلويحا بإمكانية تقويض حلم تركيا بلعب دور الممر الاستراتيجى للطاقة، فرضت إدارة ترامب عقوبات على المستثمرين والشركات المنخرطة فى مشروع أنبوب السيل الشمالى ــ2، المعنى بنقل الغاز الروسى إلى أوربا عبر الأراضى التركية.
على وقع تلك الضغوط، فطن إردوغان إلى أن تقاربه الاضطرارى مع موسكو قد لا يؤتى أكله التكتيكية المرجوة، بقدر ما سيثير حفيظة الحليف الغربى ويزيد من وتيرة الجفاء المتفاقم معه، بما يهدد تركيا بفقدان مغانم استراتيجية ضئيلة لكنها حيوية، تتحصل عليها، بكثير عناء، جراء ذلك التحالف القلق، خصوصا مع انبعاث الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن. لذلك، هم إردوغان باستدارة استراتيجية يعزز بموجبها أواصر التحالف مع واشنطن وبروكسيل، ويهدئ بمقتضاها إيقاع التقارب الظرفى الحذر مع موسكو، بطرائق شتى.
أولاها، تجميد أنقرة عمليات نصب وتشغيل منظومات «إس400» الروسية، التى أبرمت صفقتها نهاية 2017 وبدأت تسلمها فى يوليو الماضى، بينما كان مقررا إدخالها الخدمة فى العشرين من إبريل الفائت، لكنها تراجعت ملقية بمآل المنظومة الصاروخية فى غياهب المجهول، بعد اكتمال اختباراتها التقنية، وإتمام الطواقم التركية الفنية المسئولة عن تشغيلها تدريباتها فى روسيا. وبينما بررت أنقرة تراجعها الصادم بتداعيات جائحة كورونا كما بعض التعقيدات الفنية، عزا مراقبون الأمر إلى ارتباك الاقتصاد التركى، وتطلع إردوغان للاحتفاظ بعلاقات أفضل مع ترامب، تتيح له عبور أزماته واستبقاء صفقة مقاتلات «إف – 35». وتمثلت ثانيتها فى إبرام إردوغان تفاهمات استراتيجية مع واشنطن حول سوريا، مكنت الأمريكيين من إحكام قبضتهم على النفط السورى ومعاونة إسرائيل على لجم نفوذ إيران إقليميا، فيما أتاحت للأتراك تأمين تموضعهم هناك لتأمين المصالح واحتواء التهديدات، علاوة على منع روسيا وقوات النظام السورى من إحكام السيطرة على إدلب، التى تحوى جيش أنقرة من الجهاديين والمرتزقة. وأما ثالثتها، فتجلت فى التنسيق التركى الأمريكى بليبيا لتقويض نفوذ روسيا والحيلولة دون تموقعها جيواستراتيجيا هناك بإقامة قواعد عسكرية على غرار ما فعلت بسوريا. فهنالك، أبت أنقرة إلا أن تكون ذراعا لواشنطن ووكيلها فى ليبيا لمحاصرة روسيا، التى برع إردوغان فى تفزيع واشنطن من أطماعها الاستراتيجية لإطلاق يده هناك، مستغلا المخاوف الأمريكية من مخططات موسكو لإعادة إنتاج السيناريو السورى أو الأوكرانى فى ليبيا، بما يتيح للروس تموضعا عسكريا طويل الأمد يخولهم نشر أنظمة صاروخية متطورة بعيدة المدى على السواحل الليبية بما يقض مضاجع التحالف الأورو ــ أمريكى.
وعملا باستراتيجية القيادة من الخلف، عهدت واشنطن إلى تركيا بمهمة إجهاض محاولات الجيش الليبى السيطرة على طرابلس، فضلا عن كبح جماح التطلعات الاستراتيجية الروسية فى ليبيا، عبر إطلاق يد إردوغان وأذرعه الميليشياوية هناك.ومن ثم، غضت الطرف عن انتهاك أنقرة للقرارات الأممية ومخرجات مؤتمرات باليرمو وباريس وأبوظبى وبرلين، فيما يخص حظر توريد السلاح إلى ليبيا أوتأجيج المواجهات المسلحة هناك، كما التزمت إدارة ترامب صمت القبور إزاء إرسال تركيا للجهاديين والمرتزقة من إدلب السورية إلى طرابلس الليبية، بل واستخدام تركيا قواتها الجوية والبحرية لمساندة السراج، وتقديم الدعم اللوجيستى والإسناد الاستراتيجى لغزو سرت ومحيطها، توطئة للسيطرة على قاعدة القرضابية والهلال النفطى. وبينما لم يتورع بيان «أفريكوم» عن التلميح بتقبل واشنطن لوجود تركى فى ليبيا، وإن كان عثمانى المآرب، بدلا من تموضع استراتيجى روسى، انبرى السفير الأمريكى لدى ليبيا يبرر التدخل التركى هناك باعتباره ردا على ذلك الروسى. الأمر الذى شجع الرئاسة التركية على إعلان مواصلتها دعم ميليشيات السراج، واستمرارها بعمليات التنقيب غير القانونية عن النفط والغاز بشرق المتوسط، مهددة بإبطال أى اتفاق يتجاهل أنقرة بهذا الصدد.
ورغم شعورها بالغبن والتهميش فى داخله، لم تدخر تركيا وسعا فى استثمار عضويتها «المنقوصة» بالحلف الأطلسى، حسبما وصفتها تسريبات لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عام2017، طمعا فى المشاركة بأى دور تضطلع به فى ليبيا مستقبلا، بما يضفى سمتا من المشروعية على تغلغلها وتموضعها غير القانونى هناك، سواء عبر تدخل عسكرى مباشر من قبل الحلف، أو من خلال إقامة قاعدة عسكرية بالجنوب الليبى تعنى بتقويض النفوذ الروسى، ومحاربة الإرهاب، ومجابهة مافيا تهريب البشر والهجرة غير النظامية. وفى سبيل ذلك، رعت أنقرة مباحثات سرية مباشرة بين الناتو والسراج بغية التوافق حول زمان ومكان إقامة تلك القاعدة.
ولما كان تاريخ التجربة التركية ينضح بولع محموم بالغرب ورغبة عارمة للتعلق بتلابيبه منذ التنظيمات العثمانية فى القرن التاسع عشر، لم تتردد القيادات التركية المتعاقبة فى حسم أى جدل عارض بشأن تموضع بلادهم بين الشرق والغرب، بتولية وجهها شطر ذلك الأخير. ففى عشرينيات القرن الماضى، وبمعرض إبحاره بالجمهورية التركية الوليدة والجريحة، فى خضم لجج دولية متلاطمة ومحيط إقليمى بالغ التعقيد، مبتغيا موازنة علاقات بلاده مع القطبين العالميين حينئذ، روسيا وبريطانيا، حتى تمكن من انتزاع حياد ثمين لتركيا بالحرب الكونية الثانية، عاد أتاتورك وأذعن للضغوط الغربية والإغراءات الأمريكية بالانحياز لجبهة الحلفاء قبل أسابيع من أفول تلك الحرب، التى سارع خليفته عصمت إينونو فى أعقابها للارتماء فى أحضان الغرب استقواءً به فى مواجهة التهديدات السوفييتية المفزعة لتركيا، وهو التوجه الذى كلله عدنان مندريس لاحقا بتوسل عضوية عصية ومنقوصة فى حلف الناتو عام 1952، قبل أن يحاول التماس هامش مناورة فى علاقاته بالغرب عبر ميل حذر تلقاء موسكو، كلفه منصبه وحياته إثر انقلاب عام 1960، الذى كان الأكثر دموية بين حزمة الانقلابات العسكرية التى أرهقت التجربة التركية المتعثرة فى التحديث والتحول الديمقراطى.
واليوم، وعلى رغم تباين خلفيتيهما المهنية ومرجعيتيهما الفكرية، يمضى إردوغان على ذات الدرب الأتاتوركى، طامعا فى جنى ثمار توازن مستعص يتوخى إدراكه فى علاقات بلاده الحيوية بكل من موسكو وواشنطن. لكنه وبمجرد أن تبين له استحالة مواءمة تحالفات بلاده الاستراتيجية، التى تحصلت عليها بشق الأنفس مع واشنطن والناتومن جهة، وفاهماته الظرفية المحفوفة بالمخاطر مع موسكو على الجهة المقابلة، صاغرا يجنح إردوغان لاقتفاء أثر الحليف الغربى، ملتمسا استبقاء الشريك الروسى بمثابة احتياطى استراتيجى أو ورقة ضغط لابتزاز الغرب وحمله على تحسين شروط العلاقات المتقلبة والمختلة معه، سواء عبر اختلاس بعض من صفقات تسلح نوعية روسية، والاحتفاظ بتعاون استراتيجى فى مجال الطاقة، أو من خلال إبقاء الباب مواربا أمام تفاهمات اضطرارية حول بعض القضايا الإقليمية الشائكة، كلما اقتضت الضرورة.