التقطتُ جريدة الفاينانشل تايمز البريطانية الأربعاء الماضى (١٥ أغسطس) فوجدت فى صفحة واحدة فيها مجموعة الأخبار التالية:
(١) وزير الدفاع، فيليب هاموند، ووزير الثقافة، جيريمى هَنت، سلما بأن عليهما أن يعيدا النظر فى استعانة وزارتيهما بالشركات الخاصة لتأدية المهمات بعد فشل شركة G4S (ولعلك تذكرها من مقال الأسبوع الماضى) فى توفير عدد كاف من الأفراد لتأمين الأوليمبياد. صرح هَنت بهذا فى لقاء مع البى بى سى، فوَبَّخه باول بندار، مدير شركة «كابيتا» ــ وهى من أكبر شركات توريد الخدمات ــ قائلا إن الحكومة ليس بيدها الاستغناء عن التعاون مع القطاع الخاص، وبالذات فى ظل عجز الموازنة الذى تعانيه، بل عليها أن تبحث عن طرق أكثر وأسرع لإدخال القطاع الخاص فى أعمالها.
هذه المشادة تأتى فى الوقت الذى تطرح الحكومة فيه للمناقصة عقود قطاع عام بقيمة نحو أربعة بلايين استرلينى ــ وهى أكبر موجة من خصخصة التعاقدات تشهدها بريطانيا منذ ثمانينيات ثاتشر.
وشركة G4S هى الآن محور جدل واسع حول تصاعد دور القطاع الخاص فى خدمات الشرطة، وبالذات بعد أن حظيت بعقد قيمته عشرين مليون إسترلينى فى السنة، لمدة ١٠ سنوات، من شرطة محافظة لنكولنشير لتبنى وتدير مركز شرطة وسجن صغير محلى.
أما كابيتا، فهى من أكبر الشركات الخاصة الموَرِّدة للحكومة، وقد عهدت لها وزارة الدفاع بمهمة استجلاب الأفراد للعمل فى الجيش (لغت بريطانيا العمل بنظام التجنيد فى أواخر الخمسينيات) على مدار العشر سنوات القادمة، كما عهدت لها بمهمة النظر فى مطالبات المواطنين لحقهم فى الإعانة الاجتماعية بسبب الإعاقة وتقدير استحقاقهم(!)
نَصِف بريطانيا بـ«الديمقراطية العريقة»، وهى جزء من النظام العالمى، لم يعد فيها يسار منظم يذكر، وتتبع الولايات المتحدة الأمريكية سياسيا واقتصاديا إلى حد كبير، لكنها ومع ذلك، غارقة فى معركة القطاع العام والخاص. وقد رحب ديفيد برِنتيس، رئيس اتحاد عمال القطاع العام، «يونيسون»، بتصريحات الوزير ووجد فيها ما يبشر بأن الحكومة بدأت «تستفيق وتتعامل مع الواقع ومع الأدلة» التى تثبت زيف الزعم بأن القطاع الخاص سوف يمكن الدولة من أن تقوم بمهامها ويوفر لها الأموال فى نفس الوقت.
الحكومة تجمع الضرائب من الشعب، وهذه الضرائب، إضافة إلى موارد الدولة المختلفة، هى الدخل الذى عليها أن تستعمله فى إدارة البلاد حسب عقدها الديمقراطى مع الشعب. فمقاطعة لنكولنشير، على سبيل المثال، عندها ميزانية مائتى مليون جنيه، عليها أن تنفقها، عبر عشر سنوات، فى بناء مركز شرطة وسجن محلى. وهى ترى أن شركة G4S أقدر منها على القيام بهذا المشروع، فهى تزعم أن الشركة ستقوم بهذا المشروع بكفاءة وجودة تتفوق على ــ أو على الأقل تضاهى ــ كفاءة وجودة القطاع الحكومى، وبتكلفة أقل؛ فهى بهذا ترعى مصلحة المواطن وتتقى الله فى أمواله.
ولكن لماذا تدخل شركة فى هذا التعاقد؟ بالطبع لأنها ستربح من ورائه. هذه الملايين، التى أتت من عرق المواطن، لم تشتر له الخدمة الأمنية من حكومته التى انتخبها ويستطيع أن يحاسبها، لكنها ذهبت إلى شركة ستعمل على تعظيم هامش ربحها ــ أى أنها ستنفق على المشروع أقل من المائتى ألف التى هى موازنة الحكومة، وستحاول استغلال المشروع بأشكال مختلفة مثل استعمال السجناء فى إنتاج سلع مثلا، أو تأجيرهم شخصيا لأصحاب الأعمال، أو تخفيض درجة العناية الصحية التى يعتمدون عليها، إلخ. والمواطن لا يستطيع محاسبة الشركة لأنها شركة خاصة غير منتخبة.
ويزعم الخطاب الرسمى أن الشركات الخاصة أقدر على القيام بالمهمات بتكلفة أقل لأنها تتمتع بـ«الخفة» فى العمالة وبحسن الإدارة. وتقول الخبرة إن هذه الشركات تتقدم بعروض تبدو أقل تكلفة، لكنها لا تقوم بالمهمة على الأوجه التى كان تقوم بها الهيئات الحكومية، وما توفره بقلة عدد العاملين تعوضه بالمرتبات والحوافز المرتفعة التى تتقاضاها الرتب العليا فى الإدارة، وهى، فى التحليل الأخير، تكلف المواطن أكثر.
(٢) سمحت الحكومة للبنوك التى تتعامل مع المواطن العادى أن تعرض عليه بعض السلع المالية المتخصصة ــ مثل أنواع معينة من التأمينات مثلا. والمواطن العادى فى الأغلب لا يفهم هذه السلع ولا يحتاجها. والآن تقَدَّم أعدادٌ من المواطنين إلى الأومبَدزمان (المحكم) المالى بشكاوى أن بنوكهم مارست ضغوطا عليهم لشراء هذه السلع.
شكلت الحكومة لجنة لتقصى الحقائق، يرأسها الاقتصادى الكبير، السير جون فيكرز، وارتأت هذه اللجنة أن يتم فصل عمليات بيع السلع المتخصصة عن تعاملات البنك اليومية مع الزبائن العاديين، وبدأت البنوك فى الحشد ضد هذا الإجراء المرتقب وفى التهديد بالويلات التى ستقع على الاقتصاد إن أجبروا على ألا يحاولوا بيع سلع متخصصة لزبائن لا يفهمونها. وينتظر الكل الآن قرار وزير المالية.
وإلى جانب هذا: انبرت شركات تأخذ على عاتقها التقدم بالشكاوى نيابة عن المواطنين لقاء ٢٥٪ من أى أموال تسترد. وفى الثلاثة أيام التى قضيتها فى بريطانيا مؤخرا جاءتنى خمس مكالمات من شركات تريد أن تعاوننى فى استرداد أموالى ــ «لكنى لم أشتر شيئا من هذا ــ»، «ولكن، مسز فلانة، نحن نعلم أن البنك ضغط عليك ــ»، «لم أتعامل مع البنك أساسا ــ»، وهكذا. يقول مكتب المحكم إن هذه الشركات الطفيلية («الطفيلية» دى من عندى) لا تعمل بكفاءة وهى فى الواقع تزيد من العبء الواقع على مكتبه (الحكومى) وتبطئ إجراءات النظر فى الشكاوى وتعقدها.
(3) تقود المعارضة هجوما على الحكومة الآن إذ اتضح أنها ستسمح لأسعار تذاكر القطارات فى العام القادم بأن ترتفع بنسب تتراوح بين ٦.٢٪ و١١.٢٪ ــ بينما يتوقف التضخم العام عند ٣.٢٪. وقالت ريتشل ريفز، سكرتير أول وزارة المالية فى حكومة الظل إن الحكومة عليها أن تحدد أين يقع ولاؤها: مع المواطن العادى، أم مع حق الشركات (الخاصة التى تدير السكك الحديد) فى أن ترفع الأسعار كيفما ترى؟
وقد خصخصت الحكومة البريطانية خدمات السكك الحديدية فى بريطانيا فى الثمانينيات، ونتج عن هذا ازدياد معدل الحوادث، وارتفاع الأسعار، وإغلاق الخطوط غير الرابحة، فقام حوار مجتمعى ضخم حول الحق فى التنقل، ودور الدولة فى تمكين المواطن من هذا الحق ووجوب عدم خضوع هذا الحق لآليات الربح والخسارة. نتج عن كل هذا أن اضطرت الدولة للتراجع عن مشروعها لخصخصة مترو الأنفاق فاستمر فى الملكية العامة إلى الآن.
(٤) جاء فى الإحصاءات الرسمية التى تعالج الفترة حتى نهاية مارس ٢٠١٢ أن عدد حالات استرداد المساكن من ساكنيها فى الربع الأول من هذا العام وصل إلى ١٧.١٣٠ــ بزيادة ٥.٦٪ عن الثلاثة أشهر السابقة. أى أنه من أكتوبر ٢٠١١ إلى مارس ٢٠١٢ تم طرد ٣٣.٣٥١ أسرة من مساكنها. وهذه الأسر من أفقر الطبقات فى الشعب البريطانى إذ إن مساكنهم التى تم طردهم منها هى «إسكان اجتماعى» (مساكن شعبية يعنى) لا يُسمح لأحد بالسكن فيه أصلا إلا إذا ثبت أنه لا يستطيع مجاراة أسعار السوق فى السكن. وقد قام بالبحث فى هذا الأمر مكتب تانفيلد للمحاماة، فوجد أن سبب طرد هذه الأسر فى الغالبية العظمى عجزها عن سداد الإيجار، وأن هذه الظاهرة مرتبطة تماما بظاهرة التعطل لعدم وجود فرص عمل.
وفى الوقت نفسه تستمر الحكومة فى الخطة التى تطلق عليها «الإيجار اللى تقدر عليه»، والذى يقضى بألا يقل إيجار «المسكن الاجتماعى» عن ٨٠٪ من سعر السوق لإيجار نظيره فى القطاع الخاص ــ أى أن الحكومة تسمح للسوق بتحديد مواصفات الخدمة التى تقدمها للمواطن كبديل عن السوق ــ ومن المتوقع أن يؤدى هذا إلى زيادة أعداد المواطنين التى تعجز عن دفع الإيجار.
•••
لهذا نظر مواطنو بلاد «متقدمة» مثل بريطانيا وأمريكا إلى ثورتنا ــ فى يناير وفبراير ٢٠١١ ــ بكل هذا التفاؤل والأمل. هم يشعرون بأن المواطن العادى عندهم صار فريسة السوق؛ الكل ينظر إلى كيفية استغلال أيامه ومجهوده وعواطفه وصحته وجيبه. وحكومته ــ المنتخبة ديمقراطيا ــ تنكمش وتمعن فى الانكماش، وعلى أحسن تقدير تُحَجَّم وتحدد وتقسط ما ينهشه السوق هذا من لحمه الحى، هى فى الواقع تمكن السوق منه، ولكن بالتدريج. فى نفس الوقت الكل يقول إن التاريخ لا يعود إلى الوراء، ولا يمكن إحياء مؤسسات اقتصادية ماتت وانتهت. فالعالم يبحث إذا عن نموذج جديد لإدارة البلاد، والعالم نظر إلى ثورتنا الخلاقة المتفردة على أنها تقدر على ابتكار هذا النموذج الجديد. ربما. ربما ظل هذا صحيحا، ولكن، إلى أن نصل إلى هذا الابتكار هل يمكننا على الأقل أن نتحاشى إنتاج الظروف والسياسات والآليات التى يثبت فشلها يوما بعد يوم على بعد بضعة آلاف كيلومتر من شواطئنا. يجب ألا نمشى فى خطى الدول «المتقدمة»، بل يجب أن نتعلم من أخطائها.