من باب الاستسهال أو التعاطف مع كل من يرفع لواء «الحكم بما أنزل الله»، فسر البعض سيطرة حركة طالبان الدينية المتشددة على معظم المدن الأفغانية الكبرى دون أى مقاومة تذكر، وبعد أسابيع قليلة من انسحاب قوات الاحتلال الأمريكى لأفغانستان، بأن الشعب الأفغانى هو الذى حسم الأمر وسلم مقاتلى الحركة مفاتيح المدن باعتباره الحاضن والداعم لأفكارها، رغم ما عاناه هذا الشعب تحت حكم طالبان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى وحتى سقوطها فى 2001 بعد الاحتلال الأمريكى للبلاد.
فرضت طالبان على المواطنين الأفغان خلال فترة حكمها ما لا يطقيون فطبقت حدود الشريعة حسب تفسيرها الضيق والجامد وتجاهلت مقاصدها العليا، وفتحت الباب لإيواء الجماعات المتشددة من كل أنحاء العالم فمنحت الأمريكان ذريعة احتلال هذا البلد الذى غرق فى وحل الجهل والفقر والتخلف لعقود.
ادعى أصحاب تلك النظرية أن سكان المدن الأفغانية استقبلوا مقاتلى الحركة بالتهليل والتكبير، تغاضى هؤلاء عمدا عن حقيقة أن الشعب المغلوب على أمره والذى خبر شراسة ردود فعل مقاتلى طالبان يعلم أن تكلفة مقاومة قوات الحركة بالسلاح باهظة، فلاتزال ذاكرة المواطنين الأفغان تحمل مشاهد القصف والقتل والتدمير عندما اكتسحت طالبان المدن الأفغانية فى المرة الأولى.
الواقع أن سقوط الجيش الأفغانى الذى تحكم فى أمره مجموعة من ضباع الحرب المتربحين الفاسدين، بعد تلقى أفراده تعليمات بالانسحاب من «قادة أعلى» حسبما نقلت بعض منصات الإعلام، وكفر المواطن الأفغانى بالنخب السياسية التى تداولت مواقع السلطة خلال الـ 20 عاما الأخيرة وتحكم الأمريكان فيهم كالدُمى، فضلا عن سيطرة مشاعر الخوف من ردة فعل مقاتلى طالبان كما أسلفنا ــ أسقطت هذا المواطن فى براثن الإحباط واليأس فظل يترقب الأوضاع ليرى ما ستنتهى إليه الأمور.
بعد أيام قليلة من سيطرة طالبان، ومع تيقن الأفغان من أن الحركة لن تُغير فى منهجها شيئا وأن ما ردده متحدثها الرسمى ذبيح الله ورفاقه من أنهم سيبدأون صفحة جديدة مع الشعب الأفغانى يحترمون فيها الدولة ويحافظون على مؤسساتها وحريات شعبها، ما هو إلا «كلام ليل»، ثبت زيفه بعد أن سرت أخبار منع النساء من الخروج من المنازل وملاحقة نشطاء حقوق الإنسان وضرب الصحفيين، ووصل الأمر إلى إعدام بعض المناوئين فى عدد من المدن والقرى.
بعد أن أفاق الأفغان على هذا الواقع بدأت بشائر التمرد على الحكم الطالبانى، وعقب 4 أيام فقط من وصول قادة طالبان إلى القصر الرئاسى بالعاصمة كابول خرجت أول مظاهرة فى الشوراع ضد الحركة التى أصر مقاتلوها على إنزال العلم الإفغانى ورفع علم الإمارة الإسلامية بديلا عنه.
يوم الخميس الماضى نزل حشد يضم رجالا ونساء يهتفون «علمنا هويتنا» وهم يلوحون بالعلم الأفغانى الوطنى فى يوم عيد الاستقلال الذى تحيى فيه أفغانستان كل عام فى 19 أغسطس ذكرى استقلالها عن الاحتلال البريطانى.
وحسب وكالات الأنباء، نقل شهود عيان أن مقاتلى الحركة أطلقوا النار على مسيرة خرجت فى مدينة أسد أباد عاصمة إقليم كونار شرق البلاد ما أدى إلى سقوط عدة أشخاص بين قتيل وجريح.
ثم توالت المسيرات فى مدن أفغانية أخرى، منها جلال أباد وخوست، والعاصمة كابول التى شهدت مسيرة ضمت نحو 100 شخص، رفع المشاركون فيها العلم الأفغانى وهتفوا «عاشت أفغانستان.. علمنا فخرنا»، وفرضت طالبان حظر التجول فى تلك المدن وهددت أهلها بأنها ستنكل بكل من يخرق قراراتها وتعليماتها.
أحد المتظاهرين فى مدينة جلال أباد قال فى مقطع فيديو نقلته وسائل الإعلام: «أردت دعم العلم الأفغانى ومنع طالبان من تدنيسه، ثم بدأ إطلاق النار وحاصرنى عناصر طالبان وهددونى وضربونى»، فيما قال متظاهر آخر إنه على الرغم من الرد العنيف، فإنهم سيحتجون مرة أخرى.
مسيرات العَلم التى شارك فيها العشرات والمئات، تدلل على أن الشعب الأفغانى الذى جرب الخضوع 6 سنوات قد شب عن الطوق وقرر التحدى وأعلن أهل الحضر والمدن على الأقل حتى هذه اللحظة أنهم لن يقبلوا ممارسات طالبان مجددا، فإذا كانت الحركة مصرة على استدعاء طرقها السابقة لإخضاع الشعب الأفغانى لفقهها ومنهجها فى الحكم، فإن الأفغان لن يقبلوا مرة أخرى الخضوع والعودة إلى ما كانوا عليه قبل 20 عاما.