عبقرى هو مشهد الفنان عادل إمام فى مسرحيته الشهيرة «شاهد ماشفش حاجة» وهو يروى مأساته مع مصلحة التليفونات آنذاك وحرصه الشديد على أن يدفع الغرامات التى حملوه بها خوفا على أن يرفعوا «عدة» الهاتف من بيته، علما بأنه لا يملك هاتفا من الأساس! مناط العبقرية فى رأيى ينبع من مساس هذا الموقف الهزلى لمنطقة مظلمة فى ضمير الكائن الاقتصادى أيا كان موقعه على خارطة العالم أو فى خارطة المعاملات الاقتصادية، سواء أكان بائعا أو مشتريا أو مدخرا أو مستثمرا... فإنه على أية حال محل رهان النظام الاقتصادى من حوله أنه يخشى على «العدة»!
صغار المتعاملين فى بورصات الأوراق المالية ومع المصارف التجارية شرقا وغربا هم خير مثال على هذا الوضع النفسى العجيب، فهم حين يترقبون فقاعة كبرى أو انهيارا للأسواق يدركون بوعى فطرى أن هذا الانهيار سوف يقضى عليهم أولا، لذا فهم حريصون على استمرار الفقاعة فى التضخم ولو كان غذاؤها من جيوبهم، وعلى حساب مدخراتهم المحدودة. هم فى موقف «سرحان عبدالبصير» الذى جسده الفنان عادل إمام فى المشهد المسرحى المشار إليه آنفا، يحرصون على المنظومة ولو كانوا آخر المستفيدين من تضخمها. هكذا استقر أى نظام اقتصادى عرفه الإنسان، فهو ثمرة عملية تسويق ناجحة لفكرة متشابكة باعها الأقلية للأغلبية، وكلما زادت التشابكات وتعقدت العلاقات داخل النظام، كلما زاد حرص الأغلبية على حمايته من الانهيار، لأنهم يستشعرون الخطر القادم بحكم اقتناعهم التاريخى بالفكرة، لكنهم يجهلون حجم وطبيعة الانهيار وتبعاته، لذا فلابد من منعه بأى ثمن، ولابد لقطار المنظومة الاقتصادية أن يمضى بغير توقف.
***
السؤال الذى يطرح نفسه والحال كذلك: هل استمرار القطار فى طريقه وإن كانت نهايته شفا جرف هار خير، أم إيقافه فورا ولو كان فى ذلك قدر من التأخير لكل الركاب؟! منظومة التمويل العقارى فى الولايات المتحدة الأمريكية قبل انفجار الفقاعة فى عام 2008 كانت تراهن على استمرار القطار بأى ثمن. أدوات الرهن العقارى كانت أكثر الأدوات المالية استقرارا، توريق مديونيات المقترضين ثم طرحها فى السوق الثانوية حقق ثروات هائلة للكثيرين، كما أن تصميم عدد من المشتقات على تلك الديون المورقة وطرحها هى الأخرى فى البورصات حقق مليارات الدولارات للمتعاملين، وليس ثمة ضمانة حقيقية لسلامة المنظومة سوى استمرار المواطن الأمريكى البسيط فى سداد أقساط الرهن المستريح (بآجال طويلة وأسعار فائدة منخفضة نسبيا بالمقارنة بالتمويل العقارى فى مصر مثلا). الضمانة غير الحقيقية تجسدت فى شهادات تصنيف ائتمانى خادعة شديدة التفاؤل والثقة أصدرتها مؤسسات التصنيف لصالح مختلف الأوراق المالية والأدوات المشار إليها، فقط لتؤكد للمتعاملين على أن أموالهم فى الحفظ والصون، وأن شراء تلك الأدوات هو سلوك اقتصادى رشيد! لم يكن هذا رأى المواطن البسيط الذى داهمته أزمة أخرى فى سوق التوظيف، أدت إلى صعوبة توفير دخل ثابت من الوظيفة لسداد أقساط الدين العقارى وفوائده! النتيجة إذن مزيد من الاقتراض لسداد الدين العقارى أو الوقوع تحت طائلة ظروف تقشفية قاسية حرصا من هذا المواطن المأزوم على ألا يرفعوا «العدة» ! فى هذه الحالة حرصا منه على ألا يصادر البنك الوحدة السكنية التى اشتراها بالدين عندما كانت لديه وظيفة مستقرة، اشتراها لتحسين مستوى المعيشة وتحقيق الرفاهة له ولأسرته.
أحدهم انتبه إلى أن «العدة» أو الوحدة السكنية لا تستحق كل ذلك العناء، أحدهم انتبه إلى كون الوحدة السكنية الضامنة للقرض هى ثمن زهيد لخلاصه من ربقة الدين وقهر مؤسسات التمويل. البداية كانت بعدد من عمليات التنازل عن الوحدات الضامنة للرهن العقارى فيما عرف بالـ «foreclosure » ثم اتسع نطاق تلك العمليات حتى توقفت الأصول الضامنة لملايين الأوراق المالية المصدرة عن خلق أى عائد، كانت هذه بداية الانهيار، ومثيلها فى النظام المصرفى ما يعرف بالذعر المصرفى أو الـ bank rush حينها تنكشف قدرة البنوك على سداد جميع الالتزامات تجاه المودعين المتكالبين على سحب ودائعهم، وذلك ببساطة لأن الاحتياطى الذى يحتفظ به البنك هو نسبة لا تزيد فى الغالب عن 25% من إجمالى ودائع الأفراد والمؤسسات. المحرك فى المثالين تقريبا واحد، فهو حالة انعدام الثقة فى المنظومة، وحالة من يأس غالبية الركاب من وصول القطار إلى محطته التالية.
لولا الحرص على «العدة» لهدمت صوامع وبيع، ولما استمر نظام اقتصادى واحد هنا أو هناك لأكثر من ساعات. لولا هذا الحرص لما كان صغار الممولين هم أول الناس سعيا نحو تقدير أوعيتهم الضريبية، ثم المسارعة بسداد الضرائب على اختلاف أنواعها ومهما كان هناك شك فى عدالتها. الثقة فى قيمة العملة هى أيضا فرع من أصل ذلك الحرص النفسى. ورقة بنكنوت لا قيمة لها فى ذاتها إلا بالثقة فى النظام النقدى للبلاد، تلك التى تجعلها تساوى عددا من السلع والخدمات التى ينتجها المجتمع، أو هى جانبا من رصيده الذهبى كما كان الوضع فى النظام النقدى القائم على الغطاء الذهبى للنقود، يوم أن كان الذهب مرادفا للثروة.
***
ودون الدخول فى تفاصيل مملة للقارئ غير المتخصص، فالخلاصة هى أن كل نظام يحافظ على بقائه بوقود ذاتى قوامه الثقة فى آلياته ودعائمه، وحرص الأغلبية على التضحية بالكثير من أجل بقاء القليل منتظما فى مساره المرسوم.
لا أبتغى من هذا المقال الحط من شأن القرارات الاقتصادية لعامة الناس، أو النظر باستعلاء إلى تقدير غالبية المجتمع للقيمة الحقيقية للأصول والثروات... بل ربما كان مجموع القرارات غير الرشيدة للوحدات الاقتصادية هو عين الرشادة ومكمن الوقاية من دورات اقتصادية أشد تتابعا وعنفا من تلك التى يعرفها النظام الرأسمالى السائد. ربما شكل مجموع القرارات العشوائية نسقا منتظما من العلاقات الاقتصادية المستدامة. بل إنه لمن المؤكد أن المحصلة المنطقية لقرارات اقتصادية مثالية لن تكون إلا حالة من الكساد أو التضخم الجامح، لأن تباين دوافع وحوافز ومن ثم قرارات البيع والشراء والاستثمار والمضاربة هى أساس توازن الأسواق، واستمرار النشاط الاقتصادى. هب معى أن القرار الاستثمارى الحكيم فى لقطة زمنية معينة هو بيع كل الأسهم والتخلص منها فى جلسة واحدة، فمن أين نجد المشترى لتلك الأسهم، لو لم يكن هناك توقعات مغايرة لدى البعض وقرارات لها وجاهتها وحكمتها تتجه بأصحابها نحو الشراء؟ هب أن الجميع يريدون الادخار والحكمة تقتضى عدم المجازفة بأى استثمار فكيف تضطلع المصارف بوظيفتها المثلى كوسيط بين المدخر والمستثمر؟ كيف تتمكن من خلق الائتمان؟ كيف ينمو هذا الاقتصاد ويخلق فرص العمل؟... إذن ليس ثمة قرارات اقتصادية رشيدة مائة بالمائة، ولكنه اختلاف الأذواق دائما هو ما يحول دون بوار السلع.
هناك عبء على الدول والمؤسسات الاقتصادية الكبرى كى تستمر فى تسويق أنساقها، وتحقيق أكبر قدر من المنفعة المشتركة لمختلف اللاعبين فى أى نسق، وهو ما يؤرق كثيرا من الاقتصاديين فى الوقت الراهن، سعيا وراء مسئولية مجتمعية نحو الفقراء والأكثر احتياجا، وعدالة نسبية فى توزيع ثمار النمو الاقتصادى بين الكافة. لو تحقق هذا لكان حلم التنمية المستدامة أقرب إلى التحقق.