كانت الاحتفالية التى نظمها المركز القومى للترجمة بيوم اللغة العربية السبت الماضى واحدة من أجمل المناسبات الثقافية التى شهدتها خلال الفترة الأخيرة، وفيها نجحت الدكتورة كرمة سامى المديرة الجديدة للمركز فى تقديم نفسها للمجتمع الثقافى الذى لا يعرفها بشكل مباشر فقد اختارت تكريم ثلاثة أسماء من بين مترجمينا الكبار وهم: الدكتور عونى عبدالرءوف والدكتور أنور ابراهيم والمترجم بدر الرفاعى، ولان اختيار المرء قطعة من عقله، فقد كشف الاختيار عن نزاهة ومصداقية لابد وأن تكونا محل تقدير الجميع.
والشاهد أن الاسماء المختارة ما كان لها أن تحظى بالتكريم فى ظروف أخرى، لأن أصحابها تصرفوا مع مهنتهم بالزهد اللائق واعتنوا بما أنجزوه من أعمال حققت لهم الكثير من الرضا بفضل اكتسابها ثقة القراء.
وقد شرفنى الأستاذ بدر الرفاعى بتكليفى بالحديث عنه وتقديمه بإيجاز خلال الاحتفالية التى حضرتها وزيرة الثقافة الدكتور ايناس عبدالدايم واتسمت بالاناقة والانضباط وجاءت خالية من جميع الزوائد الكفيلة بافساد البساطة التى جعلتها قريبة من القلب.
والحق أقول إن بينى وبين الأستاذ بدر صداقة عميقة تمتد لسنوات طويلة منذ ان التقيت به وانا بصحبة صديقى الراحل نزار سمك على واحدة من مقاهى وسط البلد حيث قدم لى بدر كهدية انسانية ادركت معها «أن الدنيا بخير» وبقى بعدها من مقتنياتى البشرية التى أفخر بها .
وعلى الرغم من عمق هذه الصداقة وروابطها المتينة إلا أن نظرتى لعمله كمترجم تحررت من سطوة المحبة وسعت إلى تقييم هذا العمل من المعايير التى وضعها «بدر» لنفسه، فهو مترجم محترف، لكنه يعمل بطريقة الذواقة الذى لا تمتد يده للعمل فى كتاب لا يحبه.
وحدث أكثر من مرة أن رشحته لترجمة كتب كثيرة لم يجد أنها منسجمة مع «مزاجه» فأعفى نفسه منها.
وعبر مساره المهنى الطويل نشرت ترجماته فى هيئات ومؤسسات لها مصداقية كبيرة خارج مصر وداخلها، فقد عمل مع المركز القومى للترجمة منذ بداياته ومع سلسلة عالم المعرفة التى تلتزم بمعايير شفافة وتحقق لكل من يعمل معها الشعبية والانتشار وعمل أيضا مع الكثير من دور النشر الخاصة.
وطوال رحلته انطلق الرفاعى من إرث فكرى خلفه والده الذى كان قياديا بارزا فى أكبر التنظيمات اليسارية التى عرفتها مصر وعلى الرغم من ذلك سعى للتخلص من أسر هذا الارث ساعيا لبناء شخصيته المستقلة، سواءفى السنوات التى مارس فيها الصحافة أو انتمى فيها إلى عالم الوظيفة التى سرعان ما تخلى عنها منحازا لمهنة المترجم الحر.
وقد بدأ الرفاعى بتشجيع رمز ثقافى كبير هو الكاتب عبدالفتاح الجمل الاب الروحى لجيل الستينيات ونال منه شهادة الاعتراف ورخصة مزاولة المهنة بعد ان عمل معه فى دار الفتى العربى وكانت لها سمعة كبيرة.
ومن يطالع الاعمال التى ترجمها يكتشف بسهولة أنها سارت فى عدة مسارات مكملة لمشروع واضح المعالم، المسار الأول: متعلق بمحاولة فهم تاريخ مصر وهويتها وهو ما تظهره كتب من نوعية: (هوية مصر بين العروبة والاسلام / الميراث المر / مصر الخديوية / نشأة البيروقراطية الحديثة فى مصر ) وجاء المسار الثانى بدافع فهم الآخر الإسرائيلى ومعرفة الكيفية التى يفكر بها فى تاريخنا فى ظرف حرج جاءعقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 79، وكذلك كانت ترجمته لكتاب عن ضباط الجيش فى المجتمعات العربية وكتاب آخر عن الحروب العربية الاسرائيلية وهما من تأليف مؤرخين اسرائيليين، ولم يكن ذلك تملقا او سعيا لخطاب تطبيعى مغامر، بل على العكس من ذلك كانت الترجمات داعمة لأفعال مقاومة تنطلق من أرضية معرفية صلبة وليست من خطابات عنترية جوفاء وكانت مغامرته بالعمل فى هذه الكتب خطوة شجاعة لم يقدر عليها الكثيرون .
والمسار الثالث فى تجربة الرفاعى هو مكمل للمسار الأول من حيث تأكيد خلفيته الايديولوجية وحاجته لتبنى موقف نقدى تجاه العولمة واقتصاد السوق كما فعل عبر كتابين: الأول بعنوان «منظور جديد للفقر والتفاوت» (عالم المعرفة )والثانى: «نهب الفقراء» الذى نشره المركز القومى للترجمة ويفضح عمل الشركات عابرة القومية فى العالم النامى.
وفى السنوات الاخيرة انشغل الرفاعى بكيفية بناء موقف معرفى من العولمة فى جانبها المشرق وهو (الصناعات الابداعية ) والكيفية التى تنتج بها الثقافة فى عالم التكنولوجيا و العولمة؟ وهو كتاب يشرح ببساطة التحديات التى خلقتها الوسائط التنكولوجيا الجديدة والتى ساعدت ليس فقط على انتشار الثقافة ولكن أيضا خلقت تحديات أخرى تتعلق بتشريعات الحماية التى تضمن نمو وازدهار الصناعات الإبداعية نفسها.
وما كان يعنينى فى تلك الاطلالة الموجزة هو اظهار هذا الجهد الفريد الذى رغب صاحبه فى اتاحته أمام القراء للمساعدة فى بناء موقف ازاء ما يجرى حولنا؟ ولعل أجمل ما فى بدر الرفاعى أنه يعيش برضا ويتصرف ببساطة ويعلم من حوله بهدوء كما يفعل النساك الزاهدون.