ككل عام، تتراقص الحروف من حولى لتذكرنى بيوم اللغة العربية فتلتف القاف حول قلبى وتربت الحاء الحنونة على روحى المتعبة. يأخذنى الشوق إلى شرق المتوسط لأسبح فى ذال الذكرى وأغسل ذنوبا اقترفتها وما زالت أشباحها تضغط على عنقى كأنها مشنقة.
•••
أطلب من أولادى ألا يحادثونى إلا بلغتهم الأم، لغتى، أنا أمهم بلهجتى الدمشقية وأحلف أننى لن أرد عليهم فى حياتى إن تحدثوا معى بغيرها. اللغة هى الأم وأنا أمهم أكتب كلمات على نافذة المطبخ بإصبعى فوق البخار فى يوم شتائى. أقف أمام الشباك وأكتب أسماء أولادى الثلاثة فتظهر لى من بين الحروف شجرة تساقطت آخر أوراقها هذا الأسبوع بسبب المطر والرياح التى قررت أن تعلن أن كانون هو شهر البرد.
•••
تشق الكلمات طريقها من أعماقى، هنا فى منتصف جسدى أسفل القلب قرب المعدة. من وسطى تخرج كلمات الحب والغضب والألم والحنين وحتى كلمات القرف. أى شعور حقيقى يخرج من هذه النقطة على شكل كلمات باللغة العربية. شهيق أبلع فيه رغبة بالبكاء، زفير يتحسس داخل جسدى ويرد على أننى بخير. هكذا إذا أتنفس كلماتى وأقرر إن كنت سأكتم سرى أو أبوح به.. بالعربى.
•••
الخوف: من المجهول، من الموت، من أن أفقد يوما قدرتى على الكلام، أن أفقد الذاكرة فتختلط علىَّ اللغات. ثم أتذكر أن من يفقد الذاكرة يعود إلى الأصول، إلى ما لم يعد يتحكم به المنطق. إن فقدت الذاكرة فسوف أعود إلى كلماتى الأولى وأغنى كما غنيت مع أمى «قمرة يا قمرة».
القمر: كيف يفاجئنى كل شهر بجمال بدره وكأنه حدث جديد وليس متكررا حتى الملل. وهل يمل أحد من القمر؟ القاف: لماذا يصعب على الكثيرين نطق هذا الحرف؟ قلب، قلق، قربان سوف أقدمه إلى قديس إن أزال عنى القلق واطمأن قلبى وهدأت روحى.
روح: حرف الراء رفاهية قد تصعب على البعض. رهبة أمام ما قد ينتظرنى أو راحة حين يظهر المرج بعد الثلج.
المرج: ممتد كحرف الميم فى آخر الكلمة، وكمركب يخترق البحر، أو اليم.
اليم: يبتلع الأحلام وقد يبتلع أيضا اليأس. سوف أذوب اليأس فى كأس من النبيذ المعتق يصنعه راهب فى دير محفور فى الجبل.
•••
جبال من الأوهام يضربها حرف الجيم حين يخرج من شفاة مصرية لا تعطشه. يتحرك أولادى بخفة بين الجيم الشامية والمصرية فأضحك فى سرى من ولائهم المزدوج للشام والقاهرة.
فى داخلى طفلة تردد الحروف على نغمة أغنية ما زلت أدندنها اليوم حين أبحث عن كلمة ولا أجدها.
عين العقل، أقول لنفسى بعد أن بدأت أسترد عافيتى، عين العقل أننى قررت أن أتمعن بما حولى وأسترخى لهدير كلمات تخرج من أعماقى: عتاب، أعاتب نفسى على مواقف تعنت فيها وأحكام أطلقتها دون تسامح. أعاتب صديقة على اختفائها ثم أعود إلى حرف العين وأعفو، لا مكان فى قلبى اليوم للضغينة.
الضاد! نعم ها قد وصلت إلى العمق إلى الضلع، هنا مركز اللغة وسرها.
•••
السر: هو أننى أحب وأكره وأغضب وأستغيث بالعربى. السر هو أن فى وسط جسدى حيث ينتهى الشهيق ويبدأ الزفير هناك أبجدية تزين خصرى كحزام من ذهب رسمه خطاط على جلدى كالوشم فلا يمكننى أن أتخلص منه.
الذهب: هى الصداقات التى تحمينى من الانزلاق. هى الأيدى التى تمسك بيدى فلا أقع. أصدقائى من ذهب. ما كل هذا الحظ؟
الحظ: أن أقترب من حافة المنحدر وأعود أدراجى. أن أقترب من الخطر وأتفاداه. الحظ هو الحب، أنه وجدنى واختارنى دون غيرى وتزوجنى وساعدنى أن أفهم أن للحياة معانى كثيرة، فيها المؤلم وفيها الجميل وفيها المتعب والسعيد. حرف الحاء فى الكثير من الحكمة والحنان وحلاوة أيام كاملة أستلقى فيها على أريكة أراقب من فى البيت وأسمع أصوات أولادى يلعبون ثم يتشاجرون فيتصالحون ويضحكون.
•••
فى يوم اللغة العربية أمسح بيدى على كل حرف وألمعه، أردد كلمات الغزل والحب والشوق وأغنى على إيقاع شرقى ألتقطه من بين ألف إيقاع. الطبلة والقانون والعود والناى. إن تغيرت الخريطة من حولى وجاءت وجوه مكان وجوه فسأظل أغنى الألفباء على إيقاع الطبلة حتى أفقد عقلى وذاكرتى تماما ولا تبقى معى سوى كلمات لقنتنى إياها أمى فى سنواتى الأولى. هناك حيث عين الماء تروى التربة، تبدأ الماء من العمق وتروى الأرض، تروى كلمات أمى بلهجتها الشامية روحى وأنا سيدة متقدمة فى السن فقدت القدرة على الكلام، إلا حين تردد «قمرة يا قمرة» كما لو كان عمرها عامين.
كاتبة سورية