إن حجم ومكانة وتاريخ مصر يفرضون عليها أن تكون في مقدمة الركب الحضاري النهضوي العربي. لكن السؤال المفصلي هو: هل تريد مصر أن تكون قائدة لهذا الركب أم زعيمة له؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال ستساعد في إنهاء اللغط الدائم وفي إيقاف الحساسيات الهستيرية المتعلقة بمكانة مصر ودورها ومسؤولياتها في الحياة العربية.
إن مصر لا تحتاج لأن تحتل كرسي الزعيم , سواء بمعنى رئيس القوم المدافع عنهم, أو بمعنى الكفيل (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم), أو بمعنى الرتبة العسكرية التي تحمل من يحتلها مالا يطيق من مسؤوليات الحروب. لكن مصر لا تستطيع أن تتنصل تحت أية ظروف من لعب دور القيادة, لا بمفهوم الزعامة المليء بالمشاكل وسؤ الفهم, وإنما بالمفاهيم السياسية والاجتماعية للقيادة.
إن ذلك سيعني قدرة مصر على إيحاء الثقة في صواب أهدافها وأفعالها, وعلى قدرتها على ترسيخ الشعور بأنها تنفذ أهدافها بكل شجاعة وحذق, وأخيرا قدرتها على ممارسة فضيلة المبادرة في السياسة.
القيادة بهذا المعنى لا تسمح لصاحبها التساقط في وسط الطريق بحجة التعب أو القرف, ولا الغضب و الهيجان تجاه أي نقد حتى ولو صدر عن محبين, ولا التذبذب في الالتزام الذي يؤدي إلى فقدان الثقة والاحترام.
وهنا دعنا تستذكر ما قاله رسل إيونج من أن الرئيس أو الزعيم يخلق الخوف أما القائد فيخلق الثقة, وأن الزعيم لا يعرف إلا لوم الآخرين بينما القائد يركز على تصحيح الأخطاء, وأن الرئيس يدعي معرفة كل شيء بينما القائد يطرح الأسئلة .
ثم إن مصر لا تستطيع أن تتمرد على قدرها الذي رسمه حجمها السكاني والثقافي والسياسي ورسمته لها أحداث كبرى عبر تاريخها وفرضته جغرافيتها .
مصر لا تستطيع أن تزيل من ذاكرتها صدها البطولي لجحافل برابرة سهول آسيا الوسطى والبعيدة الهولاكيين الذين دمروا بغداد ثم واصلوا زحفهم لتدمير الحضارة العربية الإسلامية. ولا تستطيع نسيان تضحياتها الجسام من أجل دحر الاستعمارين الانجليزي والفرنسي في كل الأرض العربية، وهي لا يمكنها أن تخرج من تاريخ تنطحها لطرح أضخم مشروع فكري ونضالي قومي عربي وحدوي تقدمي على كل ساكني الوطن الكبير.
ولقد فرضت الجغرافيا على مصر هاجس الخوف مما يمكن أن يأتي من خلال شرقها (فلسطين) ومن خلال جنوبها (السودان) أو للتذكير فان المشروع الاستيطاني الصهيوني أريد له في البدء أن يكون في أوغندا ليهدد ويبتز مصر من خلال مياه نيلها, فلما فشل ذلك المشروع أريد له أن يكون في شبه جزيرة سيناء كمنطقة استثمار واستيطان من قبل شركة صهيونية تخدم الاستعمار الانجليزي في مصر وتخدم العودة البربرية الحاقدة لليهودية الصهيونية.
جغرافية مصر فرضت دوما وجود عمق عربي لها في جنوبها وشرقها لمنع التطويق الصهيوني وغير الصهيوني . والأبواق التي تريد في هذه الأيام القبول بالوجود الصهيوني في شرق مصر إنما تطعن في حقائق تاريخ وجغرافية مصر, بل وفي حقائق مستقبل مصر. والذين يودون الرجوع إلى الوراء قرنا كاملا ويعيدوا رفع شعار مصر للمصريين لا يفهمون التاريخ ولا يقيمون وزنا للجغرافيا ولا يحترمون ثقافة وفكر وأحلام مصر العربية ذات البعد الإسلامي العميق.
قدر مصر إذن أن تكون في قلب الحياة العربية, قديمها وحديثها ومستقبلها. والذي فرضت عليه الأقدار أن يكون في القلب لا يستطيع التصرف وكأنه على الهوامش وفي الأطراف. والذين في القلب تقع عليهم مسؤولية القيادة. و مسؤوليات القيادة والتزاماتها معروفة ولها نظام معرفي عقلاني في علوم السياسة والاجتماع. ومصر لا يمكن إلا أن تتصرف كقائدة, ولا تحتاج أن تنزل بمستواها إلى مفاهيم قبلية عشائرية متخلفة كمفاهيم الزعامة السياسية.
لقد فضلت أميركا في عهد بوش البائس أن تكون زعيمة العالم بدلا من قائدته, فما حصدت إلا الخزي وقلة الاحترام وسلسلة من الفشل لها وللعالم. أملنا أن لا تسمح مصر, التي نعول عليها لتكون رأس حربة النهوض الحضاري العربي, أن لا تسمح لنفسها بالوقوع في حبائل التصرف مثل الآخرين الفاشلين, إذ عند ذاك ستدخل أمتها ووطنها في محنة بهلوانيات السياسة الفاشلة.
القيادة السياسية في مصر الدولة ومصر المجتمع المدني تحتاج أن تعي كل ذلك إبان سعيها الدءوب لقيادة هذه الأمة في بحار العالم الهائجة المتلاطمة.