التقدم صناعة، وطريقة تفكير قبل أى شىء آخر. وتستدعى طريقة التفكير السليم فى المستقبل أن يكون هناك تقييم دائم للواقع، نقده، وطرح الخطط لتحديثه، ولا ننتظر المآسى والحوادث الكبرى حتى نتحرك، ونتذكر أن هناك مشكلات.
فى الفترة الماضية طفت على السطح تجاوزات عديدة للشرطة، وضعت فى الأساس على كاهل أمناء الشرطة، الذين بالمناسبة ليسوا وحدهم المنتجين للتجاوزات، أو الذين تصدر عنهم تجاوزات. فجأة، استيقظ المجتمع على المشكلات التى يسببها أمناء الشرطة، والتى نعرفها منذ سنوات التى جسدها «حاتم» فى فيلم «هى فوضى»، وانهالت المقالات التى تتحدث عن تجاوزاتهم، وطرحت مصطلحات جديدة مثل «جمهورية أمناء الشرطة»، وعجت مواقع التواصل الاجتماعى والفضائيات وجلسات البرلمان بآراء وتعليقات وصور صارخة، وعرفنا أن هناك ائتلافا لأمناء الشرطة غير قانونى، رغم أنه قائم منذ سنوات، وتجلس معه قيادات الداخلية فى الأزمات مثلما حدث فى الحالات التى لجأ فيها أمناء الشرطة إلى الاحتجاج، وإغلاق مديريات الأمن.
فقط تحركنا عندما زادت التجاوزات، وظهرت الرسائل الغاضبة من مؤسسة الرئاسة، وزمجر الناس فى الشارع ضد ما يحدث من انتهاكات لحقوقهم، على النحو الذى حدث من الأقصر أقصى الجنوب إلى الاسماعيلية مرورا بالقاهرة ما بين المطرية والدرب الأحمر.
الإشكالية الحقيقية أنه لا يوجد تصور شامل للتعامل مع المسألة الأمنية بما يفضى إلى جهاز شرطى قادر على حماية المواطن دون تجاوزات. فمن ناحية ما يتحمله الجهاز الأمنى يفوق بكثير ما يتحمله نظراؤه فى الدول الأخرى، ما يضع ضغوطا عليه فى التعامل بإرهاق وانفعال مع كم كبير من الملفات، ومن ناحية ثانية فإنه حين يكثر الكم، يتوارى الحديث عن الكيف، وهى قاعدة معمول بها فى كل مجالات الحياة فى الدول النامية التى يهمها كم الانجاز، وليس طريقته. هنا لم يعد المواطن، خاصة بعد ما حدث من حراك سياسى فى مصر يريد كما فقط، فهو يريد اختفاء الجريمة، ولكن بأسلوب متحضر، لا ينال من حقوقه، ويظل يحفظ حتى للمتهم حقه. يضاف إلى ذلك أن هناك غصة لا تزال فى حلق الجهاز الأمنى مما حدث له إبان ثورة 25 يناير، بعض عناصره لم تستوعب ما حدث، ويريد إعادة دفة الحياة إلى قديمه، وآخرون يريدون أن يروا الحياة مختلفة فى ظل دولة تحترم القانون.
الجهاز الأمنى فى قلب الحدث الآن هو تعبير عن حالة البلد بأكملها، ولا يصح أن ندعى جميعا الفضيلة فى مواجهته، فهو تعبير عن ضعف مؤسسات الدولة، وتزايد الأعباء التى تقع على كاهلها، ومطالبتها بتحقيق نتائج سريعة، فضلا عن ضعف التكوين المهنى، الذى صار يتطلب مليارات الدولارات فى الدول المتقدمة، واضطراب أحوال المجتمع، الأمر الذى يشيع الإحباط، وعدم القدرة على التفكير السليم، والاكتفاء بالوسائل المعتادة.
مشكلة الجهاز الأمنى ليست فى أمناء الشرطة فقط، ومشكلة مصر ليست فى الجهاز الأمنى فقط، المسألة تحتاج نظرة شاملة للمستقبل، وتصورات واضحة للعمل بها فى شتى المجالات من أجل التقدم.
ســامــح فـــوزى