نزل من منزله قاصدا أى تجمع يعلن فيه رفضه تسليم مصر جزيرتى تيران وصنافير للنظام السعودى.. كانت المرة الأولى التى يشارك فيها فى مظاهرات، فعمره لم يبلغ الثامنة عشرة بعد.
مضى إلى ميدان مصطفى محمود غير عابئ بتحذيرات والده أو رجاءات أمه، كلما مر على تجمع للسادة الضباط ومخبريهم زاد خفقان قلبه، لكن هتاف «عيش.. حرية.. الجزر دى مصرية»، حمله إلى قلب المظاهرة، وهناك استأنس برفاقه، فهزم خوفه، وأطلق لحنجرته العنان، فأيقن أنه وجيله أقوى من أى نظام، وأنهم سيرسمون مستقبلهم كما حلموا به.
تعاملت قوات الأمن مع المسيرة بعد تحركها بضعة أمتار، فتفرق الشباب، واختار هو أن يذهب إلى ميدان التحرير، عسى أن يجد فيه من يكمل معه يومه، ولحداثة سنه وعدم خبرته تلعثم عندما سأله الباشا «رايح فين؟» فألقى القبض عليه، وحُمل مع آخرين إلى قسم الشرطة، وفى الحجز تعرف على عدد من أشقائه فى حب الوطن، ردد معهم أغنية الشيخ إمام:
اتجمعوا العشاق فى سجن القلعة.. اتجمعوا العشاق فى باب الخلق
والشمس غنوة من الزنازن طالعة.. ومصر غنوة مفرعة فى الحلق
اتجمعوا العشاق بالزنزانة.. مهما يطول السجن مهما القهر
مهما يزيد الفجر بالسجانة.. مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر
«اتجمعوا العشاق» أنسته قلق والديه، وخوفه من استمرار حجزه وعرضه على النيابة.. شعر بقوته، وبضعف وجبن سجانه، رد على المحقق بثبات «إحنا نازلين لأننا بنحب بلدنا ورافضين بيعها».. بعد انتهاء التحقيق والفحص، صدر قرار بإخلاء سبيله، فودع رفاقه بالدموع على وعد باللقاء يوم 25 أبريل.
تجربة جمعة «الأرض» ثبتت هذا الشاب على موقفه المعارض لنظام الرئيس السيسى، ودفعته لأن يتحول من مجرد متظاهر استجاب إلى دعوات النزول للاحتجاج على تسليم الجزر، إلى ناشط يدعو إلى التظاهر يوم 25 أبريل، وكاره لمحاولات الوصاية التى يحاول النظام فرضها على جيله.
فى نهار ذات اليوم كان السيسى يحذّر من «الاستسلام إلى الشعور بالإحباط واليأس ومحاولات تأليب الصغار على الكبار لكسر إرادة الدولة وهدمها»، وقال خلال لقائه عددا من الشباب فى جبل الجلالة: «أنا لا أقلق من محاولات الخارج لهدم مصر ولكن ما يقلقنى هو الداخل، لأن هناك مخططا جهنميا قد لا ينتبه له البعض»، داعيا إلى إصلاح أى شرخ حدث فى المجتمع.
فى نفس اللقاء قال صديقنا محمود التميمى للسيسى: «ان الشرخ ده مسئولية رئيس الدولة، وعليك اصلاحه وإزالة اسبابه».
الشرخ اتسع للدرجة التى لن ينفع معها اصلاح، الرئيس مُصر على توسيع الفجوة بينه وبين المستقبل، لا يفهم خطابهم، ولا يرى أحلامهم، فالرجل بحكم تكوينه لا يريد أن يراجعه أحد «اسمعوا كلامى أنا بس، و«أنا مأذنتش لحد إنه يتكلم»، فما بالك بمن يعترض ويحتج ضد قراراته، بالطبع هو من وجهة نظره متآمر ومشارك فى مخطط جهنمى لإسقاط الدولة.
لن ترهب عمليات القبض التى بدأت مساء الخميس «جيل الرفض»، أو تثنيه عن النزول للتعبير عن رأيه غدا، بل بالعكس، تجربة السنوات الخمس أثبتت أن هذا الجيل بلا حسابات «مستبيع»، لا يقبل بضغوط ولا يخشى تهديدا، ويندفع فى اتجاه «الغاز والرصاص»، وعلى استعداد أن يقتلع أى سلطة فى سبيل تحقيق حلمه بأقامة دولة الحرية والكرامة.
على الهامش
إلى مرتزقة الإعلام وعرائس المارونيت، الأحداث أثبتت أن «الشروق» لا تلفق أخبارا ولا تنشر معلومات خاطئة، وأنها الجريدة الوحيدة تقريبا التى قبضت على جمر المهنة وقدمت لقارئها خدمة صحفية جادة، فى وقت كان الآخرون يفردون «خزعبلات المؤمرات الكونية» على 8 عمود فى الصفحة الأولى وينسبونها إلى مصادر سيادية.
وبالرغم من الظرف السياسى الخانق إلا أن «الشروق» اختارت أن تحافظ على موضوعيتها فى الأخبار والتقارير وتنوعها فى الرأى، بينما قلب الآخرون «الترابيزة»، واستبدلوا خطهم التحريرى كما يستبدلون ملابسهم الداخلية، والأرشيف موجود.