التحليق بجناحي العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التحليق بجناحي العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية

نشر فى : الجمعة 23 أغسطس 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : الجمعة 23 أغسطس 2024 - 6:20 م

تقدم أية دولة يعتمد على جناحين: العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، لن تتقدم دولة بجناح واحد فقط، وتتساوى فى ذلك الدول المتقدمة والدول النامية. موضوعنا اليوم عن هذا الموضوع: تكامل العلوم الطبيعية والإنسانية.

لن تتقدم أى دولة بجناح واحد فقط:

   • الدولة التى ستركز على العلوم الإنسانية فقط ستواجه مشاكل حياتية ووجودية كبيرة لأنها لن تستطيع إطعام مواطنيها لإهمالها الزراعة، لن يكون عندها طرق ومبان جيدة ولا منظومة صحية جيدة إلخ، لأن الزراعة والهندسة والطب من العلوم الطبيعية.

   • الدولة التى ستركز فقط على العلوم الطبيعية قد تحصل على مردود سريع على المدى القصير، الناس تحتاج البوصلة التى توجه السلوك وتساعدها على التفكير المنطقى وعلى معرفة الاستخدام الأمثل للموارد وعلى معرفة أصلها وأصدقائها وأعدائها وهذا يحتج للفلسفة والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الجغرافيا إلخ. 

لا نحتاج أن نسهب فى شرح أهمية العلوم الطبيعية فلا أحد ينكر أهمية الطب والهندسة والزراعة إلخ. لكن هناك نقطة مهمة: ما أهمية العلوم الطبيعية التى لا يوجد تطبيق لها على المدى القصير؟ هى ما زالت على جانب كبير من الأهمية، يكفى أن نعطى أمثلة ونناقش أهميتها: الفيروسات والزلازل والبراكين. دراسة الفيروسات وتحورها والميكروبات وطرق انتقالها حتى ولو لم يكن هناك وباء هو أمر لا يعطى مردودا سريعا لكنه يجعلنا مستعدين إذا جاء الوباء ونستطيع التنبؤ بالسيناريوهات المختلفة ونستعد لها. نحن نتذكر أيام الكوفيد عندما استطاعت الدول التى لها خبرة فى التعامل مع الفيروسات الوصول إلى تطعيم لمواطنيها، تاركة بقية الدول تعانى حتى منت عليها الدول المتقدمة بالتطعيم فى وقت لاحق.  دراسة جيولوجيا الأرض وتطورها عبر ملايين السنين لا تعطى مردودا سريعا لكنها تساعدنا على فهم هذا العالم، وماذا يمكن أن يحدث فى المستقبل، وما العوامل التى بيدنا وتلك التى ليست بيدنا لنتقى شر الطبيعة حين تثور. هذه فقط أمثلة لكن القائمة تطول وتحتوى على علوم المناخ والاحتباس الحرارى وأبحاث الفضاء إلخ. حتى الدول النامية يجب أن تضرب بسهم فى تلك العلوم. هناك علوم قد لا يكون لها مردود سريع لكن تظهر أهميتها فى المدى المتوسط والبعيد. إذا أهملت بعض الدول تلك العلوم بالكلية ستكون تحت رحمة الدول الأخرى إذا وقعت الواقعة.

لنأخذ بعض الأمثلة من العلوم الإنسانية ونتحدث عن أهميتها.

ماذا عن التاريخ؟ هل يجب دراسته حتى لغير المتخصصين؟ الإجابة هى نعم. هناك أسباب عديدة، منها مثلا أن معرفة التاريخ:

   • تعطينا دروسا ويعطينا أيضا أسبابا للفخر.

   • تجعلنا نتعرف على الأصدقاء والأعداء.

   • تساعد على معرفة جذورنا والقاسم المشترك بيننا.

   • تساعد على التفكير النقدى عن طريق تحليل أحداثه.

   • تساعد على التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية وبالتالى الاستعداد لها.

   • تعطى فكرة للباحثين عن كيفية نشأة الأفكار وتصارعها وتكاملها وتطورها عندما ندرس تاريخ العلوم.

...

ماذا عن الفلسفة؟ هو تخصص أصبحنا للأسف نتندر عليه عندما يتحدث شخص بشىء نراه غير مهم فنقول له «انت بتتفلسف». الفلسفة إذا تم تدريسها بطريقة صحيحة تدرب الطالب على طريقة التفكير الصحيحة التى تعتمد على النقد والمنطق وكيفية إعطاء السؤال المناسب فى المشاكل المختلفة، فالسؤال الجيد هو أول الطريق للحل. هذه الصفات نحتاجها فى جميع التخصصات بلا استثناء.

العلوم الإنسانية ليست فقط مهمة، ولكن العجيب أن هناك تكنولوجيات لا نستطيع استخدامها دون بعض العلوم الإنسانية.

إذا نظرنا إلى التكنولوجيات المتقدمة مثل السيارات ذاتية القيادة، هل يمكن أن نراها فى طرقنا قريبا؟ الموضوع يتعلق بشيئين: التكنولوجيا نفسها وهى فى تقدم مستمر والتشريعات اللازمة. إذا ركبت سيارة ذاتية القيادة وطلبت منها الذهاب لمكان معين وأثناء الرحلة صدمت شخصا، من يتحمل المسئولية؟ هذا هو الشىء الثانى وهو التشريع. القوانين والدساتير هى علوم إنسانية وبدونها سيصبح العالم فوضى ولن ترى بعض التكنولوجيات النور دون تشريعات وقوانين. التشريع من العلوم الإنسانية.

...

نتفق جميعا أن التعليم ركيزة أساسية لأية دولة تريد التقدم. التعليم نفسه يحتاج علوم التربية وعلوم النفس إلخ. حتى الجيوش تحتاج العلوم الإنسانية، الجيوش تحتاج الأسلحة وهى طبعاً تعتمد على التكنولوجيا وهى نتاج العلوم الطبيعية لكن الجيوش تحتاج أيضاً علم نفس وعلوم سياسية وهى من العلوم الإنسانية، لا يجب أن ننسى أن هناك إدارة هامة فى كل الجيوش مختصة بالشئون المعنوية. يمكن أن يستمر الحديث ويأخذ صفحات وصفحات إذا تحدثنا عن الجغرافيا والعلوم السياسية والعلوم الاقتصادية إلخ.

...

يبقى سؤال مهم: نحن مقتنعون أننا نحتاج العلوم الإنسانية بجانب العلوم الطبيعية لكن أليس العدد مهما؟ مثلا ألن نحتاج عشرة مهندسين وعشرين طبيبا لكن لا نحتاج هذا العدد من متخصصى الفلسفة والتاريخ؟ الإجابة هنا تتلخص فى نقطتين:

   • نترك الطالب يدرس ما يحبه لأنه سيبرع فيه. هل ستستفيد البلاد من مهندس فاشل أكثر من مؤرخ ناجح؟ أعتقد أن الإجابة بلا.

   • كل دولة ولها ظروفها. هناك دولة قد تحتاج متخصصين فى العلوم الإنسانية أكثر من الطبيعية، وهناك العكس، فلا توجد إجابة موحدة.

...

حيث إن مقال اليوم أن العلوم أى إننا نتكلم عن التعليم وتوصيل تلك العلوم لطلابنا فيجب ألا ننسى إن التعليم أمن قومى ولن تتقدم أية دولة إلا بالتعليم (وليس الشهادات) الذى هو أساس العلم والتكنولوجيا. هناك عدة أسئلة يجب أن نجيب عليها بدقة لأهميتها فى تقدم التعليم.

   • هل درسنا أساليب ومناهج التعليم فى أمريكا؟ وأوروبا الغربية والشرقية؟ وآسيا؟ هل عرفنا الفارق بينهم؟ هل عرفنا المنهج والطريقة المثلى لنا من بينهم؟

   • هل سننقل أسلوب ومنهج دولة معينة كما هو؟ أم سنحتاج أن نمصره؟

   • سؤال لأسر الطلاب: أيها أفضل لكم: شهادة أجنبية؟ أم تعليم جيد؟ فهناك الكثير من الشهادات الأجنبية تعتمد فقط على «عقدة الخواجة».

   • عندما نستقدم جامعات أجنبية لفتح فروع عندنا أو عندما تعقد جامعة عندنا اتفاقيات مع جامعات فى الخارج، هل ننتقى الجامعات المتقدمة فى الترتيب العام أو فى تخصصات معينة؟ أم نعتمد فقط على أنها جامعة «من بره وخلاص؟».

نقطة أخيرة عن أهمية كل أنواع العلوم: هناك برنامج أعتبره على المستوى الشخصى من الكنوز الإذاعية وكنت أتابعه بشغف. البرنامج اسمه «كتاب عربى علم العالم» ويعطى صورة بالغة الوضوح عن أهمية العلوم المختلفة الإنسانية منها والطبيعية، قد يجد القارئ الكريم حلقات من هذا البرنامج على الانترنت وأنا أدعوه لسماعه والاستمتاع به.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات