شفتهم فى مسجد عباد الرحمن فى شارع الأمير قدادار، شباب جريح وشباب بيموت وشباب بينقذ شباب. شفت ناشطة قوية وجسورة ومتمرسة، واقفة على باب المسجد، تبحث فى الشارع عن سيارة تنقل ولدا لمستشفى المنيرة، عيناها تدمع لآلام الولد. شفت شباب يجرى على قنبلة الغاز تتدحرج على الأرض يلتقطها ويقذف بها عائدة إلى من رماها أصلا. شفت أهالى الشهداء ــ ولن أتكلم اليوم عن الأمهات؛ أحكى عن الآباء: هؤلاء الرجال نراهم الآن فى كل مكان ــ أمام المشرحة، فى المستشفيات، فى الميدان. حين تأملتهم أدركت معنى «ربط الجأش» ــ فالرجل ليس له أن يصرخ، أو أن يولول أو يلطم أو يشكو «ده كان سَنَدى، كان ضهرى، كان حنَيِّن، مين اللى هيسأل عليا؟» ليس له سوى أن يربط جأشه على ألمه، على جرحه ولو كان مجروحا فى مقتل، أن يتعامل مع الصوت يهمس فى أذنه (لم تقدر على حماية ابنك، لم تقف بينه وبين ما حدث له)، ليس له سوى أن يحلق ذقنه، ويِعدل ياقة القميص، ويتابع القضية، ويقف فى ميدان الثورة.
شفت الشباب على موتوسيكلات الإسعاف ــ تلك التى ظهرت أول ما ظهرت يوم ٢٨ يونيو، وتمأسست الآن فى شوارع الثورة، تنقل المصابين من على خط المواجهة إلى المستشفيات الميدانية، وصفوف من الشباب تفسح لها الطريق، تشكل طرقات تمر منها ــ وبالأمس كانت بمعدل ثلاثة موتوسيكلات ــ أى ثلاثة مصابين ــ فى الدقيقة الواحدة. كم نحن فعالين حين نمسك بأمورنا فى أيدينا، نبتكر ونتشارك، وننجز.
سمعت دق الطبول حديد على حديد والشباب متسلق عواميد اللافتات المعدنية عند مدخل شارع محمد محمود ويضرب عليها بلا توقف، فيوحد الصفوف ويرفع الروح المعنوية. سمعت طنط ب، وطنط ع، وطنط س تندمن على عدم وجودهن فى قلب المعركة، تعترضن على الشباب الخائف عليهن، تفكرن فى ما تستطعن أن تقوم به للمساندة.
أكتب اليوم ونحن نستعد للنزول إلى الميدان ــ لا أعلم ما تعلمه أنت وأنت تقرأ هذه الكلمات: ما الذى سوف يسفر عنه اليوم؟
عملوها الشباب وها هى الثورة تشتعل من جديد ــ ليست هذه ثورة ٢٥ يناير، أو قل هذه ثورة ٢٥ يناير وقد نضجت. ثورتنا تحت عينيها هالات سوداء، لكن العينين تلمعان بالقوة والإصرار والحنان، شابت بعض شعراتها مبكرا مما رأت، لكنها بهية متفائلة، قلعت الكعب العالى والخواتم واللبس الحلو وربطت راسها ونزلت الميدان بلبس الشغل. ثورتنا عارفة طريقها من الأول، وعارفة أولادها وحبايبها، لكنها، لأنها أصيلة، أعطت الجميع فرصة، وعلى رأى أختى، ليلى سويف، «حرَّص ولا تخَوِّنش».
لم نخَوِّن، لكنهم خانوا. منهم من خان، ومنهم من لم يكن قد الموقف وقد المسئولية. وها نحن فى الشوارع مرة أخرى.
أجمع العالم فى يناير وفبراير على أن ثورتنا متفردة بين الثورات، ومن سمات ثورتنا الكرم، وها هى ثورتنا الكريمة تمنح الكل فرصة أخرى. لكن ثورتنا مش عبيطة، ثورتنا واعية وناضجة ولن تخدع مرة أخرى. هى تعرف ما تريد، ولن نترك الشارع قبل أن نأتيها بما تريد: حكومة إنقاذ وطنى، ذات صلاحيات جادة، وجيش دوره الدائم حماية الحدود، ودوره المؤقت المساعدة فى تأمين البلاد أثناء إعادة هيكلة الداخلية.
على القيادات السياسية القديمة أن تختار الآن. كفاية فشل وتفرقة وكلام نظرى ومواقف لا تهم الناس فى كتير أو قليل. القوة اللى مع الثورة تنزل الشارع وتشتغل من الشارع.
وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أولا أن يعتذر للشعب المصرى: يعتذر عن الناس اللى قتلهم، سواء قتلهم بإيده أو بإيد الأمن ــ دمهم فى رقبته. يعتذر للمصابين اللى لسة منتظرين، منتظرين الاعتراف، والعلاج، وفرصة العمل. يعتذر لكل اللى خطفهم من الشوارع، واللى أهلهم داخوا عليهم، واللى ضربهم، واللى كهربهم، واللى حبسهم، والبنات والشباب اللى بهدلهم وانتهكهم، يعتذر للأب اللى ابنه رجع له بعد ٦ شهور ماكانش عارف هو فين لكنه رجع عازف عن الحياة من اللى عملوه فيه.
ثم على المجلس أن يعتذر للناس عن وقوفه فى وجه أى إصلاح لوزارة الداخلية، بل تعاونه معها منذ يوليو ضد الشعب، ويعتذر عن الفلوس اللى اختفت من خزائن الدولة المصرية من ساعة ما تولى هو مقاليد الحكم؛ يعتذر عن كل الإجراءات اللى عملها لإبطاء التقدم فى طريق الثورة، وعن كل المبادرات اللى عطلها فعطل مسيرة الثورة، يعتذر للفلاحين اللى القطن قاعد عندهم والحكومة بتقول مافيش فلوس تشتريه، ولعمال المصانع اللى قاعدة عطلانة مستنية القطن، وللشباب اللى اتخنقوا ومرضوا وماتوا فى الشوارع فى الأيام اللى فاتت بفعل الغاز والأسلحة اللى الحكومة ماعندهاش أى مشكلة تلاقى فلوس عشان تشتريها ــ واللا دى بتيجى معونة من أصدقائكم؟ بيلحقوكم بشوية غاز ورصاص حى كل ما يلاقونا نازلين الشارع؟
ثم على المجلس أن يعتذر للجيش ــ الجيش اللى كان رصيده عالى عند الشعب لحد نص فبراير ودلوقتى نزل تحت الصفر بمراحل. السادة اللواءات المشغولين بدخول التاريخ لأعلى صارية علم، لعلكم ستدخلون التاريخ لأسرع إهدار لرصيد ومحبة مؤسسة وطنية عند شعب طيب ونبيه وأصيل ــ اللى هو إحنا المصريين.
ثم عليه أن يضع القوات المسلحة فى مكانها الصحيح: تحت إمرة حكومة مدنية ورئيس مدنى.
السادة المرشحين المحتملين لرئاسة جمهوريتنا: أنتم الأوجه المعروفة الآن، وكل واحد فيكم له ثقل معَيَّن، ومنطقة قوة ونفوذ معَيَّنة. فى إيديكم، لو تتعاونوا، لو تبتكروا شكلا مبدعا للتعاون، يستغل قوتكم، ويجمعنا حولكم، ويليق ببلادنا إللى كانت والتى ستكون، فى أيديكم ــ لن أقول أن تنقذوا الثورة، فالثورة مستمرة مستمرة ــ لكن فى إيديكم أن تقصروا لنا الطريق، وأن تقولوا «يكفى ما دفعناه من ثمن. مصر غالية، وأهل مصر دفعوا ثمنها غالى. كفاية. كفاية شباب جريح وشباب بيموت». انزلوا التحرير. شكلوا حكومة إنقاذ وطنى، نصها من الشباب ــ وسترون الإنجاز والابتكار والإعجاز.
يا رب يا رب يا رب قرائى يقولوا «قديمة. خلاص عملوها امبارح»