حين يقول الفيلسوف: لا بديل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين يقول الفيلسوف: لا بديل

نشر فى : الجمعة 23 ديسمبر 2016 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 23 ديسمبر 2016 - 9:15 م
لا بديل. أسمع هذا الرد مرارا وتكرارا، أسمعه مِن أشخاص فى منتصف العمر كما أسمعه مِن صغار وشيوخ وعجائز، وكذا مِن نساء ورجال على حدٍّ سواء، لا ينجو لسانٌ مِن ترديده ولا عقلٌ مِن استنساخه، واعتماده نمطا ثابتا وإجابة نموذجية مَحفوظة عن ظهر قلب. يكون الحديث عادة حول الوضع المهين الذى صرنا غارقين فيه؛ لا قشة نتعلق بها ولا طوق نجاة يُلقى إلينا أو يظهر فى الأفق، وإذا الردُّ يأتى فجأة: «لكن لا بديل». أحيانا ما يظهر فى ختام جدلٍ عنيف، وفى أحيان أخرى يصدر عن صاحبه فوريا، ينبثق فى تلقائية وعفوية مُبهِرة، وكأنه رجع الصدى، يتردد دون وعى ودون سابق إعدادٍ وترتيب.

ضقت مِن سماع جملة «لا بديل». ضقت بمضغها إذ هى كما العلكة؛ تفقد طعمها ومعناها سريعا فى الأفواه. هى المبرر الدائم الذى نسوقه دفاعا عن خيار تبنيناه ثم ثبت فشله، نذود بها عن أنفسنا أمام اتهامات مُنهمرة بالحُمق أو باستعذاب الذُلّ، ونعلن فى ثقة أننا مضطرون مجبرون؛ لم يكن مِن مَفر أو مَهرَب.

***
«لا بديل» أخفّ وقعا مِن اعتراف بالسقوط فى فخّ وبالتعرُّض لخداع واحتيال. حين ننطقها نؤكد أننا لسنا بسُذّج ولا جُهلاء ولسنا بنائمين عن دروس التاريخ، بل نحن مَهَرة عارفين، إنما لا بديل. هى أيضا مُبرّر يكفينا شرّ البحثَ ومَشقّة التفكير والاضطلاع بخلق واقع جديد؛ معطياته ليست مُعَدَّة سلفا ولا مَرصوصة مُنسَّقة وجاهزة للتسخين والأكل. «لا بديل» تفتح لنا الباب لنقول أيضا إنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان وأننا قد بذلنا ما فى الوسع واستنزفنا ما فى الجعبة. نوحى مِن خلالها لأنفسنا بأننا أدركنا ما حولنا وفهمنا عواقب فعلنا وقدرنا ألا سبل أخرى توصلنا لأهدافنا ثم انطلقنا واخترنا عن يقين، والحقّ أن كثيرنا لم يعرف ولم يستوعب ولم يختر على بَيّنة مِن أمره ولا توقع الآتى المرعب.

أسمع عن عدم وجود البديل كلما أراد المتحدث أن يُخرسَ الساخطَ على انحدار الأحوال أو الداعى إلى تغيير أو الآمل فى وضع أفضل. أسمع عن ضرورة الرضاء وعن قيمة القناعة وعن فضائل الصبر والتَحَمُّل، وتعقب الردَّ كلماتٌ وعباراتٌ مَمجوجة فحواها التخويف، حيث لا تخرج البدائل المطروحة على الساحة عن حرب واقتتال وانهيار وفناء.

الإيمان العميق الراسخ بغياب البديل يدفع الناس إلى الاستسلام للحال الراهنة مهما كان تدنيها، ويزين لهم السكوت عن مظلمة لا تنتهى مهما كانت شواهدها وآثارها. يدفعهم إلى الكفّ عن التماس طرق الخلاص؛ فإلام التغيير إذا لم يكن هناك بديلٌ؟ تلك الدائرة الكئيبة على وجه التحديد هى مَسعى كل صاحب مصلحة ومستفيد، مَسعى الأنظمة التى تخشى ثورة الشعوب عليها، مَسعى المؤسسات الحاكمة التى ترتجف مِن فكرة التمرُّد على سطوتها وسلطانها. يرتعب الحاكم الطاغية مِن وجود منافس؛ يقتله الخوف مِن حضور بديل قد يزيح عرشه، ولا يجد غضاضة فى إهالة الأتربة عليه ولا فى تشويهه.

***

قبلت أن يأتينى الرد بألا بديل مِن كثيرين لا طاقة لديهم للبحث والدراسة والتفكير، ومِن آخرين لا يجرءون على استنطاق أحلامهم ومن هؤلاء الذين يخشون مواجهة المجهول ويجبنون عنها، لكنى لم أجد فى نفسى ميلا لقبولها مِن مُفكر كبير عُرِف منذ عقود بكونه فيلسوفا ذا باع وهمَّة داخل وخارج الحدود، لم أجد فى صدرى براحا يتسع لها ويستوعبها أو يتجاوز عنها، خاصة وأمارات العقل والرشد والنضوج تنفى بطبيعتها الخيارات الوحيدة والمصائر المحتومة وتربأ بنفسها وبأصحابها عن إعلان العجز الفكريّ والنضوب.

البدائل فى ظنى موجودة، ليست بمعجزة ولا بمستحيلة، والناس الذين صمدوا وتكاتفوا وهتفوا ورفعوا رءوسهم ذات يوم، لا يعدمون قدرة على صنع مستقبل حرّ، شريطة الكفّ عن استحضار روح الإله المنقذ الوحيد.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات