لكي تتقدم أية دولة ولكي تدور عجلة العلم نحتاج إلى متخصصين في مختلف المجالات، المتخصص في مجال ما هو شخص تعمق بشدة في هذا المجال حتى أصبح لا يشق له غبار في هذا المجال، هؤلاء الخبراء هم من يعطون النصائح في مجالاتهم للشركات وللحكومات وهم من يدفعون عجلة البحث العلمي، لذلك نستطيع أن نقول أن الخبراء الحقيقيين من أهم عناصر التقدم، في مقال اليوم نتحدث عن التعمق في مجال ما: كيف نحققه حتى نحصل على خبراء حقيقيين وليس مجرد اسم ولقب؟
بداية يجب أن نكرر ما قلناه في مقال سابق عن مفهوم الخبرة وإنه يختلف تماماً عن الأقدمية، أنت قد تعمل في تخصص ما لسنين عديدة ولكن هذا لا يجعلك خبيراً، مفهوم الخبرة يعتمد على التعلم المستمر وتطوير الأداء ومتابعة الجديد في مجالك ولا يعتمد على عمل نفس الشئ كل يوم حتى يصبح أوتوماتيكياً، إذا حصلت على الدكتوراه في تخصص ما فأنت خبير في هذا التخصص وقت حصولك على الدرجة ولكن بعد عدة سنوات من حصولك على ال"دال نقطة" إذا لم تستمر في الإضطلاع على الجديد في تخصصك وتطوير استخدامك لهذا الجديد ومراجعة ما تعرفه فعلاً (لأن تطور العلم ليس معناه فقط إضافة معلومات جديدة ولكن قد يعني في بعض الأحيان أن بعض ما تعرفه أصبح خطأ) فهذا معناه أنك لم تعد "دكتوراً" ولا تملك من الدرجة غير التفاخر بالدال نقطة.
لنفترض أنك تبذل جهداً صادقاً للتعمق في مجال ما فما هي الأخطاء التي يقع فيها من يسلكون طريق الخبرة؟
أول خطأ هو التسرع لأن الخبرة تقتدي وقتاً ولكن مرور الوقت لا يعني بالضرورة خبرة، كنا ونحن صغاراً يقولون لنا يجب أن تعرف شيئاً عن كل شيء وكل شيء عن شيء، معرفة كل شيء عن شيء ليس فقط صعباً بل في بعض الأحيان يقترب من حاجز المستحيل لأن هذه الجملة تفترض أن العلم ثابت وهذا ليس صحيحاً لأن العلم متحرك فما أن تظن أنك أحطت بكل جوانبه تجد أن هناك الكثير الذي لا تعرفه في نفس هذا المجال وقد يظهر إكتشاف جديد يهدم نصف ما كنت تعرفه، إذا فالقراءة المستمرة لازمة هنا والتأني في فهم الجديد ومراجعة القديم من أساسيات الخبرة، يوجد عالم كمبيوتر كبير يسمى دونالد كانوث (Donald Knuth) وهو من أساطين علوم الحاسب في عصرنا الحالي وحاصل على جائزة تيورنج أرفع الجوائز في هذا المجال وتعادل جائزة نوبل (لأنه لا نوبل في مجال الحاسبات)، المهم أن هذا العالم قرر أن يكتب عدة مجلدات يلخص فيها علوم الحاسبات وكانت خطته أن ينتهي من هذه المجلدات مع وصول إبنه لسن الخامسة، الآن إبنه تجاوز الأربعين من العمر ومازال كانوث يعمل في المجلد الخامس ويعيد تصويب بعض المعلومات في المجلدات الأربعة السابقة! العلم كائن متحرك عصي على الاستئناس!
الخطأ الثاني في الطريق إلى الخبرة هو الشعور الكاذب بالخبرة، عندما تتعمق قليلاً في مجال ما وتتحدث عنه مع عامة الناس فقد ينظرون لك بإنبهار وهذا سيعطيك شعوراً خاطئاً بالعمق، معرفة حقيقة خبرتك لا يأتي إلا بالنقاش مع نظرائك من الخبراء في نفس المجال وهذا لا يكون إلا بالنشر في مجلات علمية أو حضور مؤتمرات والنقاش مع الخبراء الآخرين.
الخطأ الثالث هو التخصص الدقيق جداً، كنا في الماضي نجد شخصاً ما عالماً في الرياضيات والفقه والفلسفة والتاريخ! هذا لم يعد ممكناً في عصرنا الحالي نظراً لتشعب العلوم وكثرة المعلومات ومن هنا بدأ التخصص ولكن يجب أن نكون حذرين لأنك إذا تخصصت في نقطة صغيرة جداً قد لا ترى الصورة الكبيرة وبالتالي لا تكون مفيداً، هناك مثل ساخر ولكنه يحمل الكثير من الحقيقية يقول: "الخبير هو من يعلم أكثر وأكثر عن الشئ الأصغر والأصغر حتى ينتهي به الأمر أن يعلم كل شيء عن لاشئ"!! إذا التخصص الدقيق لا يجب أن يحجب الصورة الكبرى بل يجب أن ترى كيف يتفاعل تخصصك مع التخصصات الأخرى وكيف يؤثر فيها ويتأثر بها، بذلك تستطيع أن ترى أهمية إكتشاف ما في تخصص آخر على تخصصك ويمكنك أن تتعاون مع خبراء آخرين في مجالات أخرى لحل مشاكل أكبر وهذا طبعاً يقودنا لموضع في غاية الأهمية وهو روح الفريق ولكن لهذا مقال آخر.
الخطأ الرابع في السعي وراء الخبرة هو أن تظن أنك مع الإطلاع المستمر ولمدد طويلة تكون قد أحطت بهذا التخصص وهذا لن يحدث لأنه كما قلنا أعلاه أن العلم متغير وليس ثابتاً، إذا فالخبرة تستلزم التعلم المستمر.
أرجو أن نضع هذه النقاط نصب أعيننا ونحن نبني جيلاً من الخبراء في مصر وأيضاً ونحن نستعين بالخبراء وحين نبني فرق من الخبراء لحل أية مشكلة.