عملية تأسيس ليبيا المعاصرة مدينة لعطاء النساء عبر الأجيال المتعاقبة. ومثلما كانت المرأة الليبية عمود المجتمع فى الحيز الخاص، كانت عموده فى الحيز العام كذلك. خلال مرحلة إعادة تشكيل ليبيا التى بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم خلال مرحلة الاستعمار، كان لنساء ليبيا أدوار اجتماعية واقتصادية وسياسية فى إعادة صياغة البلاد وفى بناء الدولة. وقد تضمنت تلك الأدوار دعم المجاهدين، وتوفير المؤن، وإدارة المخزون، والتربية النفسية، والإسهام فى إدارة ما يعرف اليوم بـ «الشئون المعنوية» وتعزيز الصمود النفسى. بل إن بعض النساء الليبيات شاركن بأنفسهن مشاركة مباشرة فى الجهاد ضد المحتل الإيطالى وقد برزت بينهن السيدة مبروكة العلاقية والتى وصفتها الصحافة الأجنبية بأنها جان دارك الثانية. شد الانتباه كيف أقدمت السيدة مبروكة العلاقية على تحدى بعض الأعراف والتقاليد التى تفترض ابتداء عدم وجوب مشاركة المرأة فى العمل العام، فحملت البندقية وقصت شعرها وارتدت زى المقاتلين الرجال ولقبت باسم «الشيخ مبروك». والمثير فى هذه الحادثة أن مجاهدى ليبيا لم يجدوا غضاضة فى ذلك. ولعل مرجع ذلك وضوح فكرة أهمية مشاركة المرأة فى التراث الذى يسكن وجدانهم وهو ما جسده مثال خولة بنت الأزور. كما بادرت النساء فى ليبيا إلى تأسيس الجمعيات الأهلية المختلفة منذ مرحلة مبكرة. ففى عام 1913، تأسست «جمعية نجمة الهلال النسائية»، وكان لها نظام أساسى مفصل.
وخلال مرحلة بناء دولة الاستقلال، أطلقت نساء ليبيا عددا كبير من المبادرات العامة وشاركن فى تأسيس أبنية المجتمع المدنى وأبنية الدولة. تأسست الحركة الكشفية عام 1954، وأسست حميدة محمد طرخان (حميدة العنيزى، 1892ــ 1982)، وهى رائدة الحركة النسائية فى ليبيا، «جمعية النهضة النسائية». ويمثل تأسيس الجمعية امتدادا لمبادراتها فى رعاية التعليم وكفالة الأيتام وتعليمهم التى أطلقتها بداية فور عودتها من إسطنبول خلال العشرية الثانية من القرن العشرين. وشاركت المرأة الليبية فى تأسيس «جمعية الهلال الأحمر» عام 1957، التى نالت اعتراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر فى 1958، و«جمعية الكفيف» التى تأسست عام 1961، و«جمعية النور للمكفوفين» التى تأسست عام 1962. وشاركت فى تأسيس المسرح الوطنى الليبى عام 1966. ويتضح من عناوين المحاضرات التى عقدت وضوح فكرة العمل الأهلى الطوعى، ووضوح فكرة الاعتناء بالفئات والشرائح المهمشة وتمكينها. كما شاركت المرأة الليبية فى إغناء الحياة الإعلامية، ومن الإعلاميات المتميزات اللاتى برزن خلال هذه المرحلة، خديجة الجهمى، والتى كانت تعرف باسم «بنت الوطن». وأسهمت النساء الليبيات فى إغناء الحياة الأدبية بكل مستوياتها، ومن الأديبات المتميزات اللاتى سطع نجمهن فى هذه المرحلة زعيمة البارونى التى كانت واحدة من قيادات الحياة الاجتماعية والثقافية، وقد تخصصت فى كتابة المقال وتأليف القصة. كما نظمت المرأة القصيد بالفصحى والدارجة الليبية. ومن شاعرات الدارجة التى تعبر عن الهيام بليبيا وعن دعم جهود الاستقلال وعن القضايا الاجتماعية، نجمة إسماعيل جبريل. وهى أصرت على المضى قدما فى نظم القصائد على الرغم مما واجهها من عوائق. وقد غنى قصائدها عدد من المطربين مثل الشهيد عمر المخزومى، كما غنى لها عبدالسيد الصابرى. ووقعت باسم رمزى وهو «فتاة درنة».
***
ودخلت النساء الليبيات مختلف مؤسسات الدولة. وقد برزت خصوصا فى المؤسسات التعليمية. ومن المعلمات التى سلطت عليهن الأضواء اهتماما بكفاءتهن الخاصة صالحة ظافر المدنى، التى أسهمت فى تعزيز الوعى بحق النساء فى المشاركة فى الحيز العام. وهى ترأست أول جمعية نسائية فى مدينة طرابلس. كما انخرطت النساء الليبيات فى السلك الإدارى. وخلال مرحلة بناء دولة الاستقلال تجددت مبادرات حميدة العنيزى رائدة العمل النسوى والدفاع عن حقوق المرأة. وقادت فى عام 1963 مظاهرات نسوية للاعتراف بحق المرأة الليبية فى التصويت. وقد آتت هذه الجهود أكلها. كما اتخذت مجموعة من الخطوات الرمزية التى توطد أركان حق المرأة فى المشاركة فى الحيز العام، ففى عام 1964، حضرت وعددا من النساء اللاتى يمثلن النخبة الليبية جلسة افتتاح البرلمان. وبعد ذلك بعام، تمكنت حميدة العنيزى من إقناع الملك بأن توجه الدعوة لقيادات العمل النسوى الليبى لحضور حفل استعراض الجيش فى يوم عيد الاستقلال والجلوس فى منصة الشرف.
وقد استقبلها الملك ومنحها وسام محمد بن على السنوسى وهو أرفع الأوسمة. وهذا التكريم فى حقيقته تكريم للمرأة الليبية التى تمثلها حميدة العنزى وليس تكريما شخصيا لها وحدها. وعندما زار الملك سعود بن عبدالعزيز ليبيا عام 1957، اختار الملك إدريس أن يتضمن برنامج الضيافة زيارة مدرسة لتعليم البنات علاوة على البرلمان وكتيبة عمر المختار بالجيش الليبى، كانت الرسالة المرجو إيصالها من زيارة مدرسة تعليم البنات هى أن ليبيا حريصة على حقوق المرأة. كما دعمت الملكة فاطمة الإسهامات النسوية فى الحيز العام دعما مباشرا ورمزيا، ومن ذلك أنها كانت الرئيسة الشرفية لـ«جمعية النهضة النسائية».
ولنساء ليبيا عبر التاريخ إسهامات فى المجال العام وصل فى بعض الأحيان إلى أن تتبوأ نسوة عرفن بالحكمة سدة الحكم فى البلاد. ولعل هذا ما جعل نظم الرمزيات التى تكونت عبر التاريخ تظهر أن الشخصية الليبية تعبر عنها المرأة الليبية بقدر ما يعبر عنها الرجل الليبى. وقد توصل بعض الباحثين إلى أن اسم «ليبيا» الذى أصبح اسما للبلد هو فى الواقع اسم لإحدى ملكات ليبيا، ولا يزال تمثالها موجودا حتى اليوم.
على أن هذا العطاء قد تعرض لمحاولات طمس عديدة خلال فترات مختلفة على يد أطراف خارجية وداخلية أيضا. حاول الاحتلال الإيطالى قمع المرأة. وفى السبعينيات من القرن الماضى وما بعدها حاول نظام حكم الفرد المطلق تغييب إسهامات الرائدات الليبيات فى بناء دولة الاستقلال ومحوها، فلم تدرس مبادرات تلك الرائدات فى مناهج التعليم، ونتج عن ذلك انقطاع فى الوعى الجمعى وانقطاع فى وعى الحركة النسوية، وهو ما ترتب عليه عدم حصول تراكم لمكتسبات المرأة الليبية.
***
ثم جاءت انطلاقة نساء ليبيا كجزء من المكون الانتفاضى فى تحولات 2011، كخطوة تلقائية على طريق تعافى الوعى الجمعى. وكانت النساء على رأس الانتفاضة وتصدرت الحقوقيات والموظفات والمدرسات وطالبات الجامعة بل وطالبات المدارس الاحتجاجات. كما أخذت النساء تمارس التعبئة عبر مواقع التواصل الاجتماعى. وعقب سقوط نظام حكم الفرد المطلق، أسست نساء ليبيا مئات الجمعيات والمنظمات غير الرسمية، وباشرن من خلالها فى رعاية الفئات الضعيفة والمهمشة. كما شاركن فى تحفيز الليبيين على تحمل مسئولياتهم بالمشاركة فى الانتخابات وعدم النكوص عن هذا الواجب. وبعضهن دفعن حياتهن لمجرد إقدامهن على ذلك مثل الحقوقية الشهيدة سلوى بوقعيقيص. كما شاركن فى الحياة السياسية كعضوات فى الأجسام التمثيلية. ومنهن من دفعت حياتها بسبب مواقفها الوطنية وحرصها على المؤسسية والتداول السلمى للسلطة مثل النائب الشهيدة فريحة البركاوى. ومارست الإعلاميات دورا مركزيا خلال المرحلة الانتقالية. كما شاركت القيادات النسوية فى مساعى بناء السلام وانخرطن فى الفاعليات التى جرت ضمن ذلك السياق، فشاركن فى الحوارات السياسية، وفى المصالحات المحلية الأفقية.
إن مما حفز غالبية جهود عطاءات نساء ليبيا فى الحيز العام فى الجيل الراهن هى تلك «الجينات» التى تسرى فى وعيهن الجمعى، والتى انتقلت إليهن من أمهاتهن وجداتهن وجدات جداتهن.
***
انطلاقا من ذلك، تأتى مبادرة «ملهمتى»، وجوهرها دعوة كل ليبى من جميع شرائح المجتمع أن يذكر عبر تسجيل مرئى أو مكتوب من هى المرأة التى تأثر/تأثرت بها تأثرا كبيرا. وتمتد المبادرة طوال شهر مارس 2018. ومن خلال ذلك تتحقق غايات المبادرة وأولها تعريف الجيل الراهن بأعلام النساء الرائدات المؤسسات فى كل مرحلة والاعتراف بفضلهن، مما يترتب عليه تصحيح الصورة الذهنية القائمة فى الوعى الجمعى عن المرأة الليبية. ومن الغايات أيضا الوقوف على المكتسبات التى حققتها نساء ليبيا السابقات، والمحافظة عليها. كما يترتب على ذلك البناء على هذه المكتسبات، ووصل ما انقطع بإعادة «تواصل الأجيال»، وهو شرط أساسى من شروط نهوض أى أمة. ومن نتائج تواصل الأجيال تحقيق غايات انتفاضة 2011. المدهش هو أنه بعد أيام قليلة على إطلاق المشروع وتوضيح فكرته، بادر عدد كبير من جميع الفئات المجتمعية للمشاركة وذكر النساء الملهمات فى حياتهم. وبالإضافة لمشاركة عدد كبير من النساء والشابات والفتيات، كان من بين المشاركين فتية وشباب ورجال بعضهم من المعروفين بإسهاماتهم فى العمل العام، وبعضهم من الناشطين والإعلاميين والحقوقيين والمهنيين وأساتذة الجامعات.
الزهراء لنقى
السفير العربى ــ لبنان
النص الأصلى