يحفظ التاريخُ صفحاتٍ مُثيرةً حول مَن آمنوا بجدوى القهر، وبمثاليةِ وجدارةِ الحاكم المُستبد؛ القادر على إشاعة العدلِ بين الناس، وبناءِ المُجتمع، وفرضِ النظام. بين هؤلاء رجالُ دين ضاربين في بحور العلم، راسخي الأقدام، حظوا بالشهرةِ وذيوعِ الصيت، ونالوا احترام الجماهير التي صدَّقت مزاعمهم، وتداولت ما راجَ مِن بضائعِهم، وانصاعت بإرادتِها للمُستبدّين والطُغاة؛ عساهم يأتون بما لم يأتِ به سواهم، فيصلحون الأحوالَ، ويكفلون الحريةَ للرعايا والأمان؛ لكن الآيةَ لم تكتمِل أبدًا كما أُريد لها.
***
أغلب الظنَّ أن فكرةَ المُستبد العادل مَحضُ أكذوبة؛ مَن يستبد يفقد ما في حَوزتِه مِن عدل، ولا يتخلّى طوعًا عن جبروته. طولُ البقاءِ على مقعد السُلطة، يُهيِّئ للجالس ألا في عظمتِه وحصافتِه شخصٌ على وجه البسيطة، أنه فريد مَجيد، ومِن ثمَّ يكون العدلُ عنده أن يعلو على الناسِ درجةً ودرجات، وأن ينال لقاءَ تميُّزه ما يزيد ويفيض.
***
الاستبداد بالحُكم يعني الاستمرار فيه دون إتاحة فرصةٍ لتداوُل المَنصِب الأعلى، والاستمرار لفترات طويلةٍ يخلقُ الفسادَ والعطنَ؛ وأكم مِن حاكمٍ على مَرِّ العصور بدأ مُخلِصًا للحقِّ، مُتواضِعًا، لا ينفر مِن التشاور حول قراراته، ولا يستأثر بالسُلطةِ أو يُسيء استغلالَها، ثم انقلبَ بعد سنواتٍ مَديدة إلى النقيض. النماذجُ عديدةٌ، لا تمَثل في مجموعها استثناءً، بل قاعدة راسخة أصيلة.
***
تقول قواميس اللغة العربية إن الاستبدادَ بشيء يعني الانفراد به؛ إذا طغى واحدٌ على آخر وغَبنه حقَّه في أمر مِن الأمور قيل إنه استبدَّ عليه، واستبدَّ الرجلُ بالوِرث؛ أي انفرد به وحَرَمَ منه الآخرين. المُسْتَبِدٌّ إذًا هو الفاعل؛ المُسْتَبِدٌّ بِقرَارهِ هو مَنْ يَتَعَصَّبُ له، ويَتَصَلَّبُ عليه، وَلاَ يَقْبَلُ سَمَاعَ ما يخالفه بغضِّ النظر عن وجاهتِه وحُسن بيانه، أما الحَاكِم المُسْتَبِدٌّ في تعريفات المَعاجِم؛ فهو الظَالِم، القَاهِر.
***
طَبائع الاستبداد ومَصَارع الاستعباد؛ كتابٌ فريدٌ وضعه عبد الرحمن الكواكبيّ منذ أكثر مِن قرن، ووَصَفَ فيه الاستبدادَ بأنه التَصرُّف في الشئونِ المُشتركةِ بمُقتضى الهوى، ولا يزال المفكرون يستشهدون بالمحتوى الآخاذ، ويقصده الباحثون في أمور الحكم، كما تصدر مِن الكتاب طبعاتٌ جديدة هنا وهناك ليتداولها الناس؛ إذ النصّ صالحٌ للزمان والمَكان، وكأن شيئًا لم يتبدل عبر عقود، وكأن لسانَ الحال يجتر المَواجع والأحزان، ويؤكد العبارةَ الخالدة؛ ما أشبَه الليلة بالبارحة. جمع الكواكبيُّ في براعةٍ بين الاستبدادِ والاستعباد؛ فلكُلِّ مُستبِد مُستعبَد بفتح الباء، ولكُلّ عبدٍ سيّد؛ يأمر ويتحكَّم ولعميق الأسف يُطاع.
***
عرِفت أنظمةٌ سياسيةٌ مُتعدِّدة داءَ الاستبدادِ والطُغيان، دام جاهُها وسلطانُها، وتواصل على مدار الأعوامِ حكمُها، لكن السقوطَ إذا دنا وحان، جاء فاحشًا مُروِّعًا. يقول المأثور الراسخُ إن ما بُنيَ على باطلٍ هو بالتبعية باطلٌ؛ والباطل هشُّ الأساس، تذوب أعمدتُه في ضوء الشمس.
***
الطفلُ مُستبد بطبعِه؛ لا يرضى بغير ما في رأسِه، ولا يحبُّ أن يشاركَه أحدٌ مُمتلكاته الأثيرة؛ مَهمًا صغُرت وبدت في الأعين تافهة، وفي علاقاته الناشئة مع بيئته ومحيطه؛ يرفض أن يزاحمَه كائن مَن كان فيما ينال مِن اهتمامِ الكبار وحَدبِهم. ينتقل الطفلُ تدريجيًا إلى مَرحلةِ النُضج؛ فيُهذِّب المُجتمَع طبعَه، ويرغمه على تقبُّل الآخرين في دائرته؛ أصدقاء وأنداد ومُنافسين، لا يُمكنه نفيَهم مِن الوجود ولا استبعادَهم.
***
الطغاةُ المُستبدون يحتفظون ببعض سِمَات الطفولةِ الأولى؛ لُعبتي تصبح ببساطة دَولَتي وحدودَها، وفي نطاقِها ترتَسم مَنظومَةُ الأنانية بكامل مُفرداتها وخواصِّها؛ مَصَّاصتي، جورَبي، مُسدسي، عروستي، سرعان ما تستحيلُ بدورِها إلى مَياديني، مُؤسساتي، مَجالسي، وبالطبع رغبتي أنا وحدي؛ مَدعومَةً بسيطرتي ومشفوعةً بقوَّتي.
***
المُستبِدُّون أنواع؛ الذكيّ مِنهم أطولَ بقاءً في مَوقعِه بطبيعةِ الحال، وضعيفُ العقلِ مُتدنَي التدبير سُرعان ما يخلو مقعدُه للأوسعِ حِيلة، أما مَن خفَّ مِنهم فكرُه واضطرب؛ فلا يصلُح مَعه إعمالُ المَنطقِ فاستشرافُ المَسارِ؛ إذ الأمور خارجةٌ عن السيطرةِ، مُشبَعةٌ بالعثراتِ والانحرافات، وفي التاريخ مُدوَّنات مُطوَّلة عن فعيلِ هذا وصنيعِ ذاك؛ أغلبها مُبكٍ حزين. الخاضعون لإمرة المُستَبد؛ خائفون في وجود الأول، مُمتَعضون في وجود الثاني، هازئون بأفاعيل الثالث؛ لكنهم لا يملِكون مَخرجًا.
***
”الداءُ في استعبادِ البريَّة والدواءُ في استردادِ الحُريَّة“؛ فإذا كَسَرَ العبدُ القيدَ، ارتعد السيدُ، وسقط قناعُ المُستبد.